ميدل ايست اونلاين / معقل زهور عدي

الولايات المتحدة تستبق فشل خطة ’تأمين بغداد’ وتفتح الباب للحوار مع ايران وسوريا.

في وقتها اعتبرت خطة "تأمين بغداد" مفتاحا للسيطرة الأمنية على العراق، في حين اعتبرت السيطرة الأمنية على العراق مفتاحا لخروج السياسة الأميركية من مأزقها الصعب وفتح طريق الانسحاب العسكري المشرف الذي لا يستتبع انتقاصا في الهيمنة الاستراتيجية على المنطقة، الا أنه بعد مضي حوالي شهر على بدء تطبيق خطة تأمين بغداد يمكن للمرء أن يرى أن المسافة مازالت كبيرة بين الأهداف المتوخاة للحملة والأهداف المنجزة على الأرض، على أية حال مازال مبكرا الحديث عن النتائج النهائية للحملة، لكن كل الدلائل حتى الآن تشير نحو الفشل.

فحرب العصابات المكونة من مجموعات صغيرة متنقلة، تستعمل أسلحة خفيفة، وتتكون من السكان أنفسهم، وتلقى الدعم اللوجستي والمعنوي في وسطها ومحيطها لا يمكن القضاء عليها بالحملات العسكرية بسهولة.

فالمقاتلون سيختفون وسط السكان، وسيخفون أسلحتهم جيدا، وسينتظرون انتهاء الانتشار المكثف للقوات المحتلة ليعاودوا نشاطهم ثانية، والمساحة الجغرافية التي تبسط المقاومة العراقية نفوذها فيها ليست صغيرة، فمن الموصل شمالا الى الرمادي والفلوجة وسامراء وبغداد وغيرها من المدن والقرى والبوادي، هنا يجري الحديث عن عشرات الألوف من الكيلومترات المربعة لا وجود فيها سوى لنقاط محدودة من القوى العسكرية الأميركية أو حلفائها.

منذ بداية الاحتلال الأميركي بدأت ممارسات الاحتلال والقوى السياسية المتحالفة معه تدفع الناس باتجاه المقاومة، وفي السنتين الأخيرتين بصورة خاصة سقطت كل خيارات المراهنة على ما سمي بالعملية السياسية، بعد أن انكشف عجز القوى السياسية التي أتى بها الاحتلال عن تقديم أي بديل سوى النهب والفساد والانخراط مع الميليشيات التابعة لها في جرائم الخطف والتعذيب والابادة والتطهير المذهبي، ومن ثم الدفع نحو الحرب الأهلية وتقسيم البلد، كل ذلك جعل المقاومة خيارا حتميا ووحيدا، ووسع قاعدتها الشعبية، وأعطاها مشروعية تزداد رسوخا وتجذرا، وأدخل الاحتلال في مأزق لا مخرج منه.

لكن ماذا بعد فشل خطة بغداد؟

في مؤشر لا يخلو من الدلالة سترسل الولايات المتحدة مبعوثة رفيعة المستوى من وزارة الخارجية الى سوريا للبحث في موضوع اللاجئين العراقيين (فجأة تذكرت الولايات المتحدة أن هناك مليونا وربع المليون لاجئ عراقي في سوريا)، كما أعلنت الولايات المتحدة عزمها الاجتماع بسوريا وايران في بغداد للبحث في وضع العراق، يمثل ما سبق امكانية بداية تحول في الاستراتيجية الأميركية التي أعلنها جورج بوش باتجاه تطبيق توصيات لجنة بيكر – هاملتون، حيث ورد في الملخص التنفيذي للتقرير:

"وأهم توصياتنا تدعو الى تجديد وتعزيز الجهود الدبلوماسية في العراق والمنطقة، وتغيير المهمة الأساسية للقوات الاميركية في العراق الامر الذي سيسمح للولايات المتحدة ببدء نقل قواتها المقاتلة الى خارج العراق"، وكذلك "ونظرا الى قدرة إيران وسوريا على التأثير على الأحداث في العراق ومصالحهما في تفادي الفوضى في العراق، على الولايات المتحدة ان تحاول التعامل معهما بشكل بناء".

رغم أن استراتيجية بوش المعلنة أعطت انطباعا قويا بالتوجه نحو الخيار العسكري لسحق المقاومة كبديل عن سياسة التراجع المنظم التي تتضمنها خطة بيكر –هاملتون، لكن ذلك الانطباع قد يكون مقصودا كاستعراض واسع للقوة يسبق التراجع، وليس كخيار استراتيجي حقيقي، وتعطي النتائج الهزيلة لخطة "تأمين بغداد" وكذلك المؤشرات الخجولة لبدء الحوار مع سوريا وايران دلائل تدعم مثل ذلك الاستنتاج.

لكن الحاصل أن استعراض القوة الأميركي الواسع، والذي يمتد خارج العراق ويدخل ضمنه الحشد العسكري في مياه الخليج (يجري الحديث عن امكانية توجه حاملة الطائرات الثالثة نحو الخليج لتنضم للحاملتين جون سي ستينس، ودوايت دي ايزنهاور) لم يعد قادرا على تغطية الفشل الأميركي في العراق، وبالتالي فان قدرة واشنطن على انتزاع ما تريد من سوريا وايران فيما يتعلق بالعراق دون الانخراط معهما بصفقة ذات طابع استراتيجي تبدو ضعيفة بحيث أن المرء أصبح يميل للاعتقاد أن ادارة بوش تتجه نحو تطبيق توصيات بيكر بالفعل ولكن بطريقتها الخاصة في الاخراج.

في هذا السياق تبدو أزمة المفاعلات النووية الايرانية معبرا مناسبا للانعطاف اما يمينا نحو التصعيد في حال قصف المفاعلات النووية، بحيث أن مثل ذلك الهجوم الكبير (ان حدث) سيغير موازين القوى في المنطقة ويعيد هيبة الردع للقوة العسكرية الأميركية مما يستتبع بالتأكيد مراجعة الاستراتيجية في المنطقة والعراق خصوصا باتجاه التشدد على الأغلب حينها تصبح توصيات بيكر – هاملتون في الخلف، ويكون لاستراتيجية بوش الهجومية مدلول واقعي، أو يسارا نحو التهدئة تمهيدا لصفقة كبرى تنقذ الولايات المتحدة من مزيد من التورط في منطقة مليئة بالألغام مقابل القبول بشراكة ما مع ايران وسورية والاعتراف بأدوار اقليمية لهما لفترة قادمة غير محددة.

في الوقت الحاضر ربما تحاول السياسة الأميركية ايجاد طريق بين هذين الخيارين، فبدلا عن استعمال القوة العسكرية بالنسبة لايران هناك الحشد العسكري والتهديد والعقوبات الديبلوماسية والاقتصادية، وبدلا عن الجلوس صراحة الى مائدة المفاوضات هناك فتح أقنية للاتصالات غير المباشرة لتمرير الرسائل حول المطالب الأميركية، أما بالنسبة لسورية فالسياسة المتبعة الآن هي تمرير الرسائل ضمن أجواء الضغوط المستمرة كمطالب لابد من تلبيتها تحت تهديد زيادة الضغوط، لكن ذلك كله ربما يكون مضيعة للوقت، فاذا أسفرت حملة "تأمين بغداد" عن الفشل كما هو متوقع، يكون الوقت قد حان للانعطاف الكبير في السياسة الأميركية، ولعل ايران تدرك ذلك حين تسعى لشراء الوقت بتحركاتها الديبلوماسية واللعب على الأوراق الأخرى كلبنان، كما ان سورية تدرك ذلك بصبر أقل ربما بسبب محدودية الأوراق التي ما تزال تمتلكها حتى اليوم.