شاركت في الأيام القليلة الماضية في مؤتمر هو الأهم من بين المؤتمرات السنوية التي درج مركز الإمارات للدراسات الخليجية على عقدها، أعني مؤتمر الأمن في الخليج العربي. ولا يخفى على أحد أن الأمر يتعلق، في ما وراء مشكلة الأمن في دول الخليج نفسها، بمسألة أكبر هي مستقبل المنطقة الشرق أوسطية نفسها، بعد إخفاق الولايات الأمريكية في العراق، وانهيار عملية التسوية العربية الاسرائيلية، وتراجع صدقية الردع الاستراتيجي الاسرائيلية، وانقسام الغرب عموما في سياساته المتعلقة بالمنطقة، وإطلاق ايران مشروع بناء قدرتها التقنية النووية.

عرضت في المؤتمر وجهات نظر مختلفة ذات طابع فردي بشكل واضح. لكن في ماوراء المواقف الفردية التي تميز مناهج الباحثين والمشاركين وقراءاتهم الخاصة للوضع القائم، ليس من الصعب تمييز اتجاهات أربع رئيسية تعبر عن توجهات الأطراف المنخرطة في التفكير بهذا المستقبل، من خلال فهم الحاضر وتقديم عناصر لمواجهة ما يمكن أن نسميه الأزمة الإقليمية الدولية معا، بقدر ما يرتبط الوضع الخليجي بالأوضاع الدولية. وأعني بهذه الأطراف الولايات المتحدة وحلفاءها الرئيسيين، من الغربيين والعرب، وايران، والنظم العربية، والنخب الخليجية.

كان من الواضح بالنسبة لي أن ما يميز الموقف الأمريكي هو القلق المتزايد من أن يشجع انحسار النفوذ الأمريكي الناجم عن الفشل في العراق، الحكومات الخليجية على الاستقلال، ولو بشكل نسبي، عن السياسة الأمريكية الخاصة بالإقليم، والسعي إلى بلورة سياسة خاصة تجاه المسألة النووية الايرانية. فكان هدف الباحثين الأمريكيين التأكيد على ضرورة التطابق بشكل أكبر بين استراتيجيات الأمن الخليجية والأمريكية، لردع الايرانيين والجماعات الارهابية، وليس استغلال انحسار النفوذ الأمريكي في المنطقة لبناء سياسة خليجية مستقلة. وبالرغم من أن ايران أحمدي نجاد لم تكن ممثلة في المؤتمر إلا أن موقفها كان حاضرا في ذهن الجميع. فقد كان النقاش يتمحور كله حول معالجة رغبتها في تأكيد حقها في امتلاك التقنية النووية. أما الموقف الخليجي فقد كان الأبرز والأكثر وضوحا بسبب مشاركة عدد كبير من القادة السياسيين والعسكريين، وأيضا من باحثي منطقة الخليج ومثقفيها. وجميعهم عبروا من دون مواربة عن ضرورة مراجعة مفاهيم الأمن الخليجية سواء من ناحية ايلاء أهمية أكبر كما ذكر العديد من الباحثين للاستراتيجية الناعمة أو لتأمين عناصر التعاون الأعمق بين بلدان الخليج ومواجهة التحديات النابعة من الثغرات السكانية والسياسية. وكان موقفهم في مواجهة الأزمة الأمريكية الايرانية التمسك بخيار الحوار على أمل التشجيع على الوصول إلى تسوية سياسية تجنب المنطقة الحرب أو المواجهة، سواء كانت عسكرية أو مذهبية. ويمكن القول إن قلق بلدان الخليج من خيار الحرب الذي لا تريد واشنطن صرف النظر عنه، حتى لو لم تعلن تفضيلها له بعد، لا يقل عن قلقها من خيار ترك ايران تسيطر على التقنية النووية العسكرية. فهي تشعر بأنها ستكون الضحية الرئيسية لأي من هذين الخيارين. وبالمقابل لا يزال القسم الأكبر من العرب يفضلون استكشاف فاعلية المفاوضات العربية الايرانية التي يمكن أن تفتح باب أمل كبير بالرغم من أن هذا الاحتمال لايزال غير قوي بعد.

وبالرغم من خطورة الموقف، ساد المؤتمر بالإجمال جو من التفاؤل بإمكانية التوصل إلى حلول سياسية، خاصة مع ما نجم عن الحوار السعودي الايراني من حلحلة لبعض نقاط التوتر القائم في فلسطين ولبنان. وهذا ما عبر عنه البيان الختامي الذي قرأته على الحضور السيدة الأزدي المسؤولية الرئيسية في مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية. لكن المشكلة التي لم يجب عنها المؤتمر، والتي تتجاوز موقف التأكيد على أسلوب الحوار ضد خيار الحرب، هي كيف يمكن للساسة والباحثين،في الشرق الأوسط وبقية مناطق العالم معا، أن يعززوا خيار الحوار ويساهموا في انجاحه، بعد أن تبنوه كأولوية، لا تلغي بالنسبة للكثير منهم احتمال المواجهة، وإنما تشكل خطوة ضرورية أو محاولة على طريق تجنب الخيارات العسكرية المؤلمة.

وقد كانت وجهة نظري أن أمن الخليج لا يمكن أن يعالج من المنطلقات التقليدية، لأن الخليج يقدم حالة خاصة بسبب ما يتوفر فيه من احتياطيات الطاقة التي تمثل رهانات عالمية كبرى. ولذلك يشكل استفراد أي قوة أو مجموعة بالسيطرة عليه تحديا للقوى، الأخرى ويدفع نحو نزاعات مستمرة. هذا ما حصل للنظم العربية التقدمية التي أرادت، في الستينات والسبعينات، تجسيدا لمبدأ الوحدة القومية، دمجه في منظومة الأمن العربية، فكانت النتيجة إخراجها كليا من الخليج ودفع دوله إلى الارتماء في أحضان الاستراتيجية الغربية. واليوم، من وراء بروز ايران كقوة إقليمية، تعلن قوى دولية عديدة، عدم موافقتها على احتكار الأمن الخليجي من قبل قوة واحدة، وسعيها، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى كسر هذا الاحتكار.

ينبغي أن يكون هناك إدراك متزايد بأن حروب الدفاع الغربية ضد جميع القوى الإقليمية والدولية التي تسعى إلى تأمين نفوذها ومصالحها فيه، لم تعد قادرة على ضمان أمن الخليج ولا تحقيق الاستقرار والسلام في منطقة الشرق الاوسط. ولن يفيد كثيرا ردف الاستراتيجية العسكرية باستراتيجية ناعمة تعنى بالأمور السياسية والاجتماعية والثقافية. المطلوب في نظري مراجعة جذرية للخيارات الاستراتيجية الكبرى التي حكمت نظام الأمن الخليجي في العقود الأربع الماضية، والتي قامت على العمل، بالتفاهم مع القوة الاكبر، على صد جميع القوى وحرمانها من النفوذ فيه. فلم تكن نتيجة هذه الاستراتيجية المطابقة العميقة بين مصالح القوة الحامية ومصالح دول الخليج، وبالتالي تعريض الخليج لجميع المخاطر التي تتعرض لها هذه القوة فحسب، وإنما أكثر من ذلك قطع الخليج عن البيئة الإقليمية المحيطة به، وتحويله إلى جزيرة معزولة عما حولها ومرتبطة مباشرة، أمنيا وسياسيا وتجاريا وثقافيا واقتصاديا بالعالم الصناعي. وهو ما يزيد من اغترابه في محيطه المباشر، ويقلل من تفاعله الايجابي مع الشعوب القريبة منه.

ليس هناك ما يحتم على الخليج أن يختار بين استراتيجية الجزيرة المعزولة، التي يمكن أن تتحول في كل لحظة إلى قلعة محاصرة، خاصة عندما تصبح هذه الجزيرة جنة على الأرض بالمقارنة مع ما حولها، والتخلي عن استراتيجية فعالة للدفاع والأمن. إنما الخيار هو بين أن يكون هناك نظام لأمن الخليج معد من الخارج ومعتمد عليه، ونظام أمني فعلي للخليج قائم على كاهل دوله وأبنائه. ويستدعي الخيار الثاني جملة من التعديلات تمس البنية العسكرية المحلية والعلاقات الإقليمية والسياسات السكانية والاستثمارات الاقتصادية والخيارات الثقافية. فإذا لم يعد من الممكن ضمان الأمن من خلال المراهنة على تحطيم كل قوة إقليمية صاعدة أو نازعة للاستقلال عن الغرب، ليس هناك خيار أفضل لضمان أمن الخليج من المراهنة على استراتيجية بناءة وايجابية قائمة على تعزيز علاقات التعاون والتشاور والتفاهم مع دول المنطقة جميعا والدول الكبرى المعنية. وهو ما يستدعي العمل من اجل إقامة منظومة للأمن الجماعي الإقليمي تضم إلى جانب بلدان الخليج، الدول العربية المشرقية وايران وتركيا. وهذا يعني أن أمن الخليج لن يتحقق منذ الآن في مواجهة أمن الدول المجاورة وإنما بموازاته ومعه، وبقدر ما يعمل الخليج نفسه لبناء أرضية المصالح المشتركة مع دول المنطقة. وهو ما يستدعي بالمثل تعديلا في توجهات الدول الإقليمية أيضا وتجاوزا لأفق الايديولوجيات القومية العربية والتركية والايرانية معا.

لا يتطلب تحقيق ذلك تخلي الخليج عن العلاقات المتميزة مع الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص. بل على جميع الأطراف المشاركين في هذه المنظومة الاعتراف بالطابع الدولي والاستراتيجي للنفط. إنه يشير إلى ضرورة الاعتراف بالمصالح العليا الاستراتيجية لدول الخليج وعدم خلطها كليا مع حاجات ضمان تدفق النفط إلى الدول الصناعية. وهو ما يتطلب تأكيد هامش استقلال أكبر لهذه الدول في صوغ سياساتها والتعامل مع محيطها، والاعتراف بشخصيتها ومصالحها الأمنية المتميزة. وليس هناك شك في أن مثل هذا الخيار قد يشكل حافزا رئيسيا لاقناع الأطراف الإقليمية، ومنها ايران، بالتخلي عن مشاريع السيطرة على التقنية النووية العسكرية، بقدر ما يفتح آفاقا جديدة للتفكير في أمن جماعي ينبثق من دول الإقليم وحكوماتها ويكون هدفه التعاون لتحقيق الاستقرار والأمن، وربما يمهد، أبعد من ذلك، إلى إطلاق مبادرة مشتركة لتجريد المنطقة من الأسلحة النووية. باختصار يكمن أمن الخليج في بناء نظام للأمن الجماعي الإقليمي، بمشاركة العرب والايرانيين والأتراك، وبالتعاون مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة والدول الكبرى الرئيسية، يمنع أسباب التنافس والصراع على الخليج. وهذا يعني، في ما وراء أمن الخليج، أن ضمان مصالح الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في الحفاظ على تدفق الطاقة واستقرار سوقها، يكمن في مساعدة الخليج على اندماجه في بيئته الإقليمية وتأكيد تواصله مع جيرانه وتفاهمه معهم، أكثر بكثير مما يكمن في العمل المستمر على الحفاظ عليه كجزيرة معزولة في مواجهة جيرانه وضد مطامحهم القومية والأمنية والاستراتيجية.