ما لفت انتباهي في سيارة الأجرة التي كانت تقلني إلى منطقة باب توما منذ أيام، أن السائق رجل طاعن في السن يبدو عليه المرض.. وخلال حديثي الصغير معه تبين لي أن عمره يصل لنحو 77 عاماً، متزوج ولديه ثلاث فتيات صغيرات يضطررن عند مرضه وجلوسه في المنزل دون عمل إلى تسخين الخبز على المدفأة ليسددن جزءاً من جوعهن.. لذلك يخرج للعمل ولو كان (على حافة قبره)..!!

حالات كثيرة تتشابه صفاتها مع قصة هذا الرجل لجهة الفقر وعدم القدرة على تلبية احتياجات البقاء سواء داخل مراكز المحافظات أو في القرى والمناطق الريفية.. لكن دعونا نسأل.. ماذا سيحل بهذه الشريحة إذا ما تم رفع الدعم الحكومي؟ فإذا كانت في ظل رعاية الدعم لا تقوى على شراء الخبز ما الذي تستطيع فعله في غيابه؟! والأهم.. كيف يمكن للحكومة أن تصل إلى هؤلاء في أية خطة بديلة لتنفيذ المقولة الجديدة (إيصال الدعم الحكومي لمستحقيه)؟! وهل فعلاً أن الحكومة عالجت كل مشكلات الاقتصاد الوطني ولم يبق إلا قضية الدعم حتى تطرحها للنقاش؟!
رغم أنني في مقالات سابقة كنت من مؤيدي (الصمت) حيال طرح هذه القضية للنقاش، لكن ما يطرح حالياً وما يروج له جعلني أتحدث مجدداً عن هذا الأمر..

كسر المحظور:

قبل أن يخرج البنك الدولي بوصفاته (المميتة) كانت غالبية دول العالم تعتمد سياسة الدعم المباشر للعديد من السلع والخدمات المقدمة للمواطنين إلى جانب دعم آخر غير مباشر يقدم في غالب الأحيان للقطاعات الإنتاجية، ولكن ومع خطط الإصلاح الاقتصادي المدعومة من البنك الدولي في معظم الدول تم البدء تدريجياً بتقليص الدعم ورفعه عن العديد من المواد، الأمر الذي فجر مظاهرات في العالم بين أوساط الطبقات الشعبية المتضررة بشكل مباشر ومن جميع الاتجاهات.
في سوريا.. كان هناك، ومنذ إطلاق خطوات إصلاح القطاع الاقتصادي قبل سنوات، حرص شديد من قبل جميع الحكومات المتعاقبة على تأكيد أنه لن يكون هناك أي مساس بالدعم الحكومي على المدى المنظور، إنما مع مرور الزمن وازدياد طرق الموضوع تحت عنوان (كسر المحظور) و(مواجهة الواقع بجرأة) أخذ الحديث عن رفع الدعم الحكومي يتبلور بصورة أكثر وضوحاً، ليتحول من نقاش حول ما تقدمه الدولة من دعم سنوي إلى حديث عن الطرق والسبل التي يمكن من خلالها التخلي عن الدعم وتحقيق شعار (إيصال الدعم لمستحقيه)..
فالسائد حالياً أن جميع الشرائح الاجتماعية على اختلاف مستوياتها الاقتصادية والمعيشية تستفيد من هذا الدعم، وهو ما يسبب هدراً واسعاً لأموال الدولة وخللاً كبيراً في موازنتها وخططها الاستثمارية والتنموية، فضلاً عن استفادة شريحة اجتماعية صغيرة من هذا الدعم لتكوين ثروات هائلة على حساب الشرائح الفقيرة (الأوسع) وذات الدخل المحدود.
تبدو عملية إيصال الدعم لمستحقيه منطقية وموضوعية لعدة أسباب أبرزها:

 إذا كان إلغاء الدعم يشكل أمراً مرفوضاً بالمطلق، فإن استمرار مساواة الأغنياء والفقراء في هذا الدعم هو أيضاً أمر مرفوض بالمطلق، ولذلك فإيصال الدعم لمستحقيه سيحقق المساواة بمفهومها الاجتماعي والاقتصادي لا بمفهومها المجرد غير المنسجم مع المعطيات والحقائق القائمة على الأرض، وتكفي الإشارة إلى ما قاله نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري من أن 10% من الشريحة الأغنى في سوريا تستفيد بـ52 ضعفاً من الدعم مقارنة بما تستفيد منه الشريحة الفقيرة وذات الدخل المحدود.

 المحافظة على استمرارية هذا الدعم للشرائح الفقيرة وذات الدخل المحدود،فإخراج شريحة صغيرة نوعاً ما باستهلاك كبير سيوفر جزءاً مهماً من كتلة الدعم المخصصة سنوياً، ويكفي هنا القول إن الشركة العامة لتوزيع المحروقات ستقع في نهاية العام الحالي بعجز قدره 251 مليار ليرة جراء عاملين رئيسين: الأول الدعم الحكومي لجميع المشتقات النفطية لاسيما المازوت والبنزين، والعامل الثاني الاستهلاك الكبير الذي يتولد جراء تدني أسعار هذه المواد ومحاولة تهريبها للخارج.

 الحد من الاستهلاك الذي يصل إلى مرتبة الهدر غالباً لدى الشرائح ذات الدخل المرتفع أو التي لا تحتاج للدعم، فعلى سبيل المثال يؤكد الدكتور رسلان خضور الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق أن (الأغنياء في سوريا يستفيدون من الدعم أكثر من الفقراء، فمثلاً تستهلك عائلة غنية واحدة من المشتقات النفطية أكثر مما تستهلكه 15 عائلة فقيرة، كما أن الطبقة الغنية تستهلك من المواد الاستهلاكية أكثر من الفقراء باستثناء الخبز الذي يكاد يكون متقارباً في حين يتم تعويضه بمواد أخرى لدى الأغنياء..)، وهنا يعلق أحدهم ساخراً (استهلاك الخبز المتقارب سببه أن الأغنياء يكثرون من تناول الكيك والتوست ولا يأكلون الخبز حفاظاً على الريجيم والرشاقة..)!!

 إيقاف موجات الفساد التي تتم بين ثنايا آليات تقديم الدعم حالياً، سواء في طرق شراء المواد من خلال العقود والصفقات أو عبر نوعية المواد والسلع المدعومة التي تشترى وتسوق، وسابقاً تم توزيع كميات كبيرة من (الرز) بالبطاقات التموينية رغم أنها وباعتراف الجهة المعنية مصابة (حشرياً) ومخالفة للمواصفات السورية بشكل فاضح!! كما أن روائح الفساد من المؤسسة الاستهلاكية في اللاذقية (مثلاً) لم تزل تتطاير مع نحو 750 مليون ليرة تم اختلاسها طيلة السنوات السابقة.

 استغلال الجزء، الذي يتم توفيره جراء توجيه الدعم لمستحقيه فقط،في إقامة مشاريع تنموية من شأنها توليد فرص عمل جديدة وزيادة الإنتاج وتحقيق قيمة مضافة،وهكذا يتحول جزء من الدعم المباشر إلى دعم مباشر لمستقبل التنمية والشرائح ذات الدخل المحدود.

 تحول الدعم الذي يتطور حجمه سنوياً إلى عامل ضغط رئيسي على الموازنة العامة للدولة، التي لم تعد تتحمل أية زيادة في هذا الدعم بعد البدء بالتخفيضات الضريبية والرسوم الجمركية التي أجرتها الحكومة على النظام الضريبي وانفتاح الأسواق من ناحية، وتراجع قيمة المساهمة النفطية نتيجة تراجع الإنتاج النفطي وتزايد فاتورة ما يستورد من ناحية أخرى، وهو ما يحتم إعادة النظر جدياً بهذا الضغط، لكن وكما ذكرنا سابقاً فما تزال هناك قضايا كثيرة تحتاج إلى حسم قبل قضية الدعم، (من الفساد الذي سرق خيرات البلاد إلى الخسائر السنوية للشركات العامة جراء قوانين وأنظمة إدارية متخلفة..)!!

السؤال.. كيف؟!

ومقابل هذا الاتفاق على الشريحة المفترض بها أن تسفيد من الدعم واستمراريته تبرز آلية التنفيذ وطريقة التطبيق.. كيف نوصل هذا الدعم لمستحقيه فعلاً؟! هل يتم ذلك كما طرح البعض عبر زيادة الرواتب والأجور بشكل يجعلها تتقدم على الأسعار الجديدة في السوق؟! وماذا عن باقي الشرائح المحتاجة للدعم وتعمل لحسابها الخاص أو في القطاع الخاص؟! وما هي الضمانات التي تكفل لنا عدم تغلغل الفساد مجدداً في معايير تحديد الشريحة التي تحتاج للدعم؟!
ثمة أسئلة كثيرة تطرح في هذا النقاش، والتي تكتفي الحكومة بالرد عليها بخطوط عامة لا تتضمن تفصيلاً واحداً، فرغم وجود لجنة حكومية مشكلة منذ عدة أشهر لدراسة هذا الموضوع، إلا انه لم ترشح أية معلومة عن النقاط التي تم الاتفاق عليها، حيث يؤكد المسؤولون أن ما سيتم التوصل إليه سيطرح للنقاش العام وعبر استبيان عام ينظم من قبل الجامعات السورية لمعرفة رأي المواطن.. لكن ومرة أخرى نسأل.. هل الحكومة وحدها المعنية بقضية الدعم الحكومي ولماذا لا تشرك أكبر قدر ممكن من الباحثين والمؤسسات في هذا النقاش في بدايته وليس عند نهايته..؟!
في هذا الباب من موضوع الدعم وإعادة النظر بوضعه القائم تبرز أمامنا النقاط التالية..

 العمل على زيادة الرواتب والأجور للعاملين في القطاع العام باعتبارهم شريحة تنتمي للدخل المحدود، والتنسيق مع القطاع الخاص لزيادة مماثلة للعاملين لديه خطوة قد يشكل مخرجاً بديلاً لسياسة الدعم إنما لشريحة واحدة من المجتمع، حيث سيبقى أفراد المجتمع الآخرون خارج هذا التعويض، وبالتالي فهذا الحل يبقى قائماً بشرط إيجاد طريقة توصل تعويض إلغاء الدعم للشريحة غير العاملة لدى الدولة والقطاع الخاص.

 الاعتماد على النظام الإداري القائم حالياً ومؤسساته لتحديد الأفراد المستحقين لتعويض الدعم غير المجدي نظراً لترهل وضعف معلومات هذا النظام ومصادرها لديه، وحالات الفساد السائدة في جوانب عديدة منها، سواء كانت الجهات التي تمنح شهادة فقر حال مثلا أو المخاتير.. الخ، وبالتالي الخطوة الجديدة يجب،وكي تحقق نسبة جيدة من الدقة، أن توجد نظام (استعلام) جديد بالكامل.

 لا يجد البعض من الباحثين مناصاً من تعرض نظام (الاستعلام الجديد) لخروقات هنا وهناك لكن تبقى تكلفة هذه الخروقات وقياساً بالوضع القائم حاليا قليلة ولا يمكن مقارنتها، كما أن تكلفة عمليات تنظيم ودراسة المستحقين ستكون مكلفة إلا أنها ستبقى محدودة إذا ما قيست بتخفيض العجز الناتج عن تحديد الشرائح التي تحتاج للدعم من غيرها.

 إذا ما تم التوصل إلى الآلية التي ستمكن الحكومة من تحديد دقيق للشرائح التي ستحتاج للدعم.. فإن المرحلة الثانية تتمثل في معرفة ماهية هذا الدعم؟ هل سيكون عبارة عن معونة مادية تقدم كتعويض عن رفع الدعم؟! أم أن الدعم الذي سيوجه للشرائح المحتاجة سيستمر بشكله الحالي؟!.وماذا عن الخدمات العامة.. هل ستكون هي الأخرى في قائمة السلع والخدمات التي سيرفع عنها الدعم تدريجياً أو كاملاً؟!.

تخلص الكثير من النقاشات التي جرت هنا إلى أن طبيعة السلع والمواد المدعومة وحركة الأسواق تفترض عدم الأخذ بنمط واحد، فمساعدة الطبقات المحتاجة على تلبية احتياجاتها من المشتقات النفطية بسعر مناسب يفترض تقديم تعويض مادي على اعتبار أن العمل بنظام القسائم سيفسح المجال مجددا للفساد وتهريب المادة بالاتفاق بين بعض المواطنين وأصحاب المحطات، فيما يمكن أن يكون الدعم في المواد التموينية عينياً عبر تقديم هذه المواد بسعر مخفض وبالبطاقات التموينية، إذ إن تقديم فارق مادي سيجعل الأسواق والتجار يسعون للتحكم بأسعار هذه المواد واحتكارها بغية رفع أسعارها كما يحدث في الكثير من المواد والسلع، بينما استمرار الدولة تقديم هذه المواد بشكل عيني يعني استغلال الكتلة المالية المخصصة للدعم في شراء كميات كبيرة من هذه المواد.. الخ.

 النقطة الأخيرة والتي يجب أن تطرح من قبل فعاليات الشرائح الأغنى في سوريا هي أنه عوضاً عن مزاحمتها للشرائح ذات الدخل المحدود في الاستفادة من السلع والمواد المدعومة.. ألا يفترض بها المساهمة في هذا الدعم وحمل (كتف عن الدولة) في هذا الجانب؟! وهذه المساهمة لها أشكال وصور مختلفة وستكون موضوع بحثنا للعدد القادم وآراء أصحاب الشأن فيها.

قول على قول:

في بيان سابق أمام مجلس الشعب قال الدردري (إنه سيتم إعادة النظر بسياسة الدعم كي يساهم الدعم فعلياً في خفض عدد الثغرات إلى النصف بحلول عام /2015/ وإصلاح المالية العامة وضبط عجز الموازنة بحيث لا يتجاوز عام /2010/ خمسة بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي مما يضمن استقرار التوازنات الشكلية للاقتصاد السوري وأن تكون سياسة الدعم موائمة لإزالة التشوهات السعرية التي أدت إلى جعل الكثير من مؤسسات القطاع العام مخسرة إدارياً..) وفي تصريح أخر لوكالة (رويترز) البريطانية قال (إن الحكومة ستعلن قريباً برنامجاً مدته عامان لخفض الدعم لبعض السلع التموينية والمحروقات..).

ثمة تباين في مواقف الحكومة حيال الدعم الحكومي أو لنقل غموضه، فعندما تقول خفض فهذا يعني أنه إجراء سيشمل كافة الشرائح الاجتماعية المستفيدة من الدعم، وعندما تقول إعادة نظر فهي تلمح بطريقة أو بأخرى إلى (إيصال الدعم لمستحقيه)..

لكن مؤخراً كان وزير المالية الدكتور محمد الحسين يؤكد أمام منتدى فرع دمشق لحزب البعث أن تحرير أسعار المازوت غير وارد حالياً.. ولتكتمل بذلك دائرة الغموض حول مسألة الدعم!!.