كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن مستقبل السياسة الفرنسية بعد شيراك.
وأجمع عدد من الذين كتبوا في هذا الموضوع على أن لا تغيير في هذه السياسة، بعضهم تحدث عن عدم التغيير متفائلا وبعضهم تحدث مؤمنا بعمل المؤسسات الفرنسية فيما يخص الشرق الأوسط. وبين الواقع والمرتجى بون شاسع.

والعارفون بخفايا الأمور في فرنسا يحكون، من غير تفاؤل أو تشاؤم، بل بواقعية سياسية ومنطقية أن فرنسا بعد شيراك ليست فرنسا قبلهن ليس لأن ثمة انقلاب قد يحدث بل لأن فرنسا شيراك رفضت الإعلان عنة هذا الانقلاب الذي حصل. ولأن الرئيس شيراك أخفى حقيقة ما يجري لأسباب كثيرة منها لاعتبارات شخصية ومنها لأسباب تتعلق بمستقبل حكمه.

أما اليوم فإن ساعة الحقيقة قد دنت وليس من صالح أحد، لا شيراك ولا خصومه، أن يخفي هذه الحقيقة. فقط نحن العرب ما زلنا نخلط بين الواقع وما نتمناه وما زال خطاب زعمائنا الكبار يركز على الجنرال ديغول وكأن ليس في فرنسا إلا ديغول وكثيرون لا يعرفون كل الجنرال بل ما يحلو لهم أن يعرفوه عنه.

ساعة الحقيقة دنت في باريس ونأت في مناطق أخرى من العالم للأسف خاصة في بيروت.

ولا أعلم على ماذا ارتكز من يقول أن لا تغيير في السياسة الخارجية الفرنسية خاصة ما يتعلق منها بالشرق الأوسط. ولا أعرف لماذا يغامرون بهذا القول لقرائهم وأصحاب القرار عندهم. إلا إذا كانوا يكتبون للعرب ليسمع الفرنسي. كما يكتب البعض للعرب ليسمع الأمريكي.

فإذا اعتمدوا على عمل المؤسسات وهي مؤسسات أصيلة وثابتة في بنية الدولة الفرنسية فقد أخطأوا التقدير ففي السياسة الخارجية الفرنسية المؤسسات لخدمة قرار الرئيس وتأمين تنفيذ خططه وليس العكس فهو صاحب التوجه السياسي الذي يقرر أي نهج. والكل يعلم من الوقائع ومن تصريحات المسؤولين في الخارجية الفرنسية أن سياسة السنتين والنصف الأخيرتين التي اتبعتها فرنسا وذهب ضحيتها وزير الخارجية دومينيك دوفيلبان وتم نقله بضغوط أمريكية وأطلسية بين وزارة الداخلية، وهو الأبعد عن روحية عمل مثل هذه الوزارة، ورئاسة الوزراء، أي الانخراط بالهموم المحلية وهو الأبعد عن هذه الهموم بتركيبته الثقافية والفكرية، هذه السياسة لم تكن من صنع المؤسسات بل من صنع الرئيس شيراك الذي أخضع المؤسسات لصلاحيات الرئيس الدستورية. والكل يعلم أيضا أن التغيير الشامل الذي حصل منذ سنتين في سياسته الشرق أوسطية كان نتاج قناعات أو انفعالات أو ما شابه ذلك على المستوى الشخصي.
لذا فإن أي رهان في التوجهات الخارجية على المؤسسات في فرنسا رهان خاسر والرهان هو على شبكة المصالح ورؤية المسؤولين عن هذه السياسة ومن يحيط بهم من مستشارين يشاركون في صناعة القرار.

وبالتأكيد لو بقي الرئيس شيراك رئيسا لتغيرت السياسة الخارجية الحالية لفرنسا بعد أن تلقت صفعات من أصدقائها قبل معارضيها وكان على شيراك أن يعيد النظر بها وهذا ما ظهر في كلمته الوداعية التي عاد فيها إلى المرتكزات الأولى لسياسته الخارجية قبل انحرافها الغامض خاصة عندما تحدث عن صدام الحضارات والإرث الفرنسي. فماذا مع شخصيات جديدة انقلابية ستأتي إلى السلطة كائنا من كان الفائز فإن هذه السياسة ستتغير وليس تنجيما ولا ضربا من الخيال الحديث عن هذا التغيير، فهذا التغيير معلن وواضح في البرامج السياسية للمرشحين الأساسيين كما هو معروف من خلال فريق الحكم الذي سيتشكل بعد انتخابهم.

حول لبنان هناك تغيير واضح سينعكس على باقي الملفات المتعلقة به والتي حاول تحالف شيراك- بوش الأخير ربطها به هذا الأمر قد يخيف بعض اللبنانيين الذين راهنوا على حلف مقدس بين فرنسا والإدارة الأمريكية رغم علمهم أن لا أحلاف مقدسة ولا حلفاء مقدسين لدى الإدارة الأمريكية سوى إسرائيل. هذا التغيير سيكون جذريا فعودة التحالف الأمريكي الفرنسي سيكون في حال وصل ساركوزي إلى السلطة لا غير وهو أمر طبيعي جدا وواضح جدا وهو ما وعته بعض الأطراف اللبنانية وسارعت لدعم ساركوزي من أجل المستقبل. وآخرون ذهبوا أكثر من ذلك فوصلوا إلى صاحب القرار في واشنطون بدل الفروع لضمان مخرج لهم في التوليفة السياسية الجديدة.

الأمور ستتغير في لبنان لأن الإدارة الأمريكية نفسها قد غيرت إستراتيجيتها وبالتالي فإن حلفائها الفرنسيين سيسيرون في الركب حيث لا خيار لهم غير ذلك فثمة مصالح تتجاوز حدود لبنان السياسية التي وضعوها مع الانكلوساكسون.
وبقدر ما كان التغيير في الإستراتيجية الأمريكية جذريا حول لبنان فهو أكثر جذرية حول الملفات التي ربطوها به أي فلسطين وسوريا والعراق وهو ما عبر عنه السفير السعودي السابق في واشنطون ورئيس الاستخبارات السعودية الأمير تركي الفيصل الذي دعا لهلال خصيب بدل التخوف من الهلال الشيعي وهو تعبير واضح عن حل طبيعي لمشكلة مصطنعة بغض النظر عن رؤية الولايات المتحدة للأمور في حروب الأهلة.

والتغيير في السياسة الفرنسية أمر محتوم مع وصول سيغولين رويال إلى السلطة لجهة عودة الخصومة مع السياسة الأمريكية على الصعيد العالمي ولجهة رغبتها بالعودة إلى الحضور الدولي المتميز لفرنسا لا الحضور التابع. فالفريق المقرب من سيغولين رويال على تنوعه عبر عن سخطه من هذه التبعية حتى في الموضوع الفلسطيني وعبر عن سخطه من الشخصانية في الملف اللبناني – السوري.

التغيير المؤكد مع سيغولين رويال قد لا يرضي الأجندات السياسية في العالم العربي عامة لكنه سيكون واضحا منذ البداية وغير قابل للشخصانية بل لمشروع سياسي متكامل. وإن كانت خبرات واهتمامات السيدة رويال في السياسة الخارجية محدودة وربما ستبقي اهتمامها مناصفة بين الداخل والخارج لكنها محاطة بفيلة السياسة الخارجية خاصة وزير الخارجية السابق هوبير فدرين المعروف بخطه السياسي.

المشكلة التي يمكن أن نعانيها في العالم العربي هي أننا لم نحضر أنفسنا كفاية للبراغماتية السياسية ولم نحضر لاستقبال طروحات جديدة في السياسة الدولية للدول الكبرى وما زلنا نعتقد بعمق أننا إما أقوياء كفاية حتى لا نتعامل بواقعية أو أننا محور العالم فننسى أن العالم يتغير أو ضعفاء ما يكفي لأن نكون أتباع نحتمي بالأقوياء. أو أن عقولنا الموجودة حتما متوقفة عن الإبداع وعندما تزول هذه العناصر يصبح أي تغيير في العالم غنى للعالم العربي ونعمة لا نقمة.

*كاتب سياسي
رئيس تحرير نشرة انتليجنسيا الإستراتيجية