قد لا يعرف كثيرون ان التدخل القوي والمبــاشر في الحـــياة الاقتـــصادية من سمات الدولة في سورية منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1946. غير ان هذا التدخل مر بفترات مد وجزر كان أكثرها اتساعاً وشمولاً لفترة الستينات من القرن الماضي التي شهدت تأميم الصناعة والمصارف والتجارة الخارجية وصولاً الى المؤسسات الصغيرة.

في ضوء هذا التدخل ليس سهلاً، كما يطالب خبراء اقتصاديون عرب وغربيون كثر، القيام بإصلاحات اقتصادية ليبرالية في بلد كانت الدولة فيه حتى بداية تسعينات القرن الماضي تسيطر على أهم مؤسسات الصناعة والخدمات إنتاجاً وتوزيعاً وتوظيفاً.

وتزيد صعوبة إنجاز إصلاحات كهذه الظروف الإقليمية والدولية غير المواتية، التي فرضت نوعاً من العزلة السياسية والاقتصادية الغربية على سورية، الأمر الذي حرمها - على عكس حليفاتها من دول المعسكر الاشتراكي السابق- من مساعدات اقتصادية غربية كانت ستشكل دعامة مهمة لإعادة هيكلة اقتصادها الموجه من الدولة.

وفي ظل هذه الظروف في ضوء عوامل سياسية داخلية أخرى، سلكت الحكومات السورية المتعاقبة طريق إصلاح بطيئة يسميها بعضهم «طريق الإصلاح المدروس». وتعتمد هذه الطريق على المقومات الذاتية بالدرجة الأولى. وقد حُدد هدفها على أنه التحول إلى اقتصاد سوق ذي طابع اجتماعي أو «اقتصاد السوق الاجتماعي».

ويعني ذلك على أرض الواقع السوري القيام بإصلاح مالي وإداري لمؤسسات القطاع العام بدلاً من بيعها أو تخصيصها تجنباً لتسريح مئات الآلاف من موظفيها وتحويلهم إلى عاطلين من العمل، ويعني السماح للقطاع الخاص وفي شكل مواز للقطاع العام بدخول مختلف القطاعات التي كانت حكراً على الدولة.

وللتخفيف من العزلة السياسية والاقتصادية الغربية، اتجهت سورية شرقاً، خصوصاً نحو بلدان مثـــل الصـــين ومـــاليــــزيا وإيـــران وروسيا وكوريا. ومن خلال ذلك، استطاعت الحصول على قسم مهم من التكنولوجيا البديلة اللازمة لتحديث قطاعاتها في مجالات الأنسجة والمواد الغذائية ووسائل النقل والاتصالات والطاقة وتكنولوجيا المعلومات.

إن نظرة الى واقع الاقتصاد السوري هذه الأيام تُظهر بأن خطوات الإصلاح البطيئة أو «المدروسة» حققت نجاحاً ملموساً على أكثر من صعيد. فعلى سبيل المثال، تراجع عجز الموازنة إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بفعل سياسة التقشف الحكومية، وحافظ النمو الاقتصادي على معدل تراوح بين أربعة وخمسة في المئة منذ أكثر من أربع سنوات. وقفز حجم الاستثمارات من 1.5 إلى 8.5 بليون دولار خلال السنوات الثلاث الماضية.

وعلى الصعيد النقدي، حافظت الليرة السورية على استقرارها في ظل توافر احتياط جيد من العملات الصعبة تقدر قيمته بنحو 18 إلى 20 بليون دولار. وحُررت التجارة الخارجية وأُعيدت هيكلة النظام المصرفي، خصوصاً من خلال إقامة 10 مصارف خاصة حتى الآن إلى جانب المصارف الحكومية المتخصصة.

غير ان هذه النجاحات لم تفلح في الحد من مشكلة البطالة المنتشرة على نطاق واسع حتى في صفوف الأكاديميين، اضافة الى البطالة المقنعة في مؤسسات الدولة والقطاع العام بنسبة تُقدر بنحو 30 في المئة. ولا تزال هذه المؤسسات تعاني من تدني مستوى الإنتاجية والكفاءة والمنافسة وضعف روح المبادرة والإبداع وانتشار الفساد على رغم النجاح الملموس للجهود الرامية إلى الحد من هذه الظواهر في أجهزة الإدارة الحكومية. وينطبق الأمر نفسه على معظم قطاعات الاقتصاد السوري بما فيها المؤسسات والشركات الخاصة.

على رغم المؤشرات الجيدة التي يتمتع بها الاقتـــصاد السوري الـــيوم، فـــإن طــريق إصلاحـــه وإعادة هيكلته لا تزال طويلة ولم تصل بعد إلى النقطة الحاسمة. وتتمثل هذه النقطة في تحقيق شروط عدة، من أهمها النجاح في إعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام وجعلها رابحة بدلاً من دعمها السخي الذي ينهك الموازنة الحكومية، ويحد من قدرة الدولة على تحديث البنية التحتية التي تشكل الأرضية اللازمة لانطلاق القطاع الخاص وازدهاره.

وتتمثل هذه النقطة أيضاً في النجاح بإشاعة روح المبادرة الفردية من خلال وسائل وسياسات جــديدة تـــأتي في مقــدمها عمـلــية بــناء نظام تعليمي عملي ومهني مستــقل عن الأيديولوجيات الحزبية. وفي كل الأحوال فإن تجربة إصلاح اقتصادي تحاول الجمع بين الليــبرالية والاقتــصـاد الموجه في بلد نامٍ مثل سورية جديرة بالمتابعة، خصوصاً أن أصوات الاستغاثة من العولمة ازدادت حدةً وارتفاعاً في الآونة الأخيرة حتى في البلدان الأكثر ليبرالية.