تتضارب الاجتهادات السياسية حول نتائج مؤتمر بغداد الذي جمع ستة عشر وفداً يمثلون الجوار الاقليمي والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، والذي ركز على البعد الأمني للأزمة العراقية. وبصرف النظر عن الرابحين والخاسرين، فإن السؤال يبقى قائما حول مصير العراق في وحدته وسيادته واستقراره.

ما هي صفة هذا المؤتمر من حيث تكوينه وأهدافه؟ وما هي أهم نتائج المؤتمر على الصعيدين العراقي والاقليمي في ضوء المشاركة الدولية الواسعة؟

صفة المؤتمر هي اقليمية دولية، واختصاراً يمكن القول إنه مؤتمر دولي. الصفة الاقليمية ناتجة عن مشاركة دول الجوار الاقليمي ودولتين عربيتين هما مصر والبحرين، فالحضور الايراني والتركي والسعودي والسوري والكويتي والأردني (دول الجوار) أكد الطابع الاقليمي للمؤتمر. أما الصفة الدولية فإنها محددة بواسطة حضور ممثلي الولايات المتحدة، والأمم المتحدة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا.

دبلوماسياً، انه المؤتمر الأهم حول العراق منذ احتلال بغداد في العام ،2003 وكيف إذا كان ينعقد بعد أربع سنوات على الاحتلال، وانكشاف العراق على الفوضى الأمنية العارمة؟

قبل المؤتمر، اختلطت الأوراق الاقليمية والدولية. وغدا العراق ساحة صراع وتنافس ومساومة على الصعيدين الاقليمي والدولي، وكان من الصعب فصل الاقليمي عن الدولي نظراً للاحتلال البريطاني الأمريكي، والاهتمامات الدولية المباشرة من خلال دول أخرى، ومنظمات اقليمية ودولية في طليعتها الأمم المتحدة. وعليه، لا نغالي إذا قلنا إن الأزمة العراقية منذ العام 2003 هي تجسيد لتفاعلات النظام الدولي خاصة على الصعيد الأمني. هذا ما يضفي على مؤتمر بغداد مزيداً من الأهمية، في وقت

راحت تتخبط الادارة الأمريكية في وحول العراق.

من أهم نتائج المؤتمر توفر اجماع على وقف الحرب الأهلية في العراق، مع ضرورة الاشارة إلى الدور “الاسرائيلي” التخريبي داخل العراق وخارجه في الشرق الأوسط، وإلى من يؤيد هذا الدور من جماعة المحافظين الجدد في البيت الأبيض وداخل الكونجرس الأمريكي.

ان الحرب الأهلية، الطائفية والمذهبية والعرقية والقومية، تشوه صورة الولايات المتحدة كبلد يدعو إلى الديمقراطية وحقوق الانسان. وكيف إذا كانت سجون أبو غريب وجوانتانامو تدحض هذه الدعوة؟ ومن الصعب ان نعزل هبوط التأييد الشعب الأمريكي للحرب على العراق عن مصير الحزب الجمهوري في الانتخابات التشريعية السابقة، وفي الانتخابات الرئاسية المقبلة. ثمة ورقة ثمينة بيد الديمقراطيين في مواجهة الجمهوريين هي ورقة الحرب الأهلية، ناهيك عن تصاعد أصوات عالمية معترضة على تفكيك العراق تحت ذرائع واهية.

وايران متضررة من الحرب الأهلية بسبب الواقع الجيوسياسي، والديمغرافي، ويصعب عليها لا بل يستحيل عليها التوغل في تفاصيل العراق المضطرب مذهبياً. ان صورة ايران الثورية، والتقدمية، تصير مهزوزة اضافة الى تهديد أمن ايران مباشرة.

ولا تختلف صورة سوريا عن هذا المشهد إذا ما دخل العراق، ومعه المنطقة العربية، في حروب أهلية مدمرة سوف لن تبقي على أنظمة حكم قائمة، ولا على أفكار قومية وتحررية. أما تركيا فإنها المتضرر الأول من قيام كيان انفصالي كردي في شمال العراق. هذا الاحتمال مرفوض جملة وتفصيلاً من حكومة أنقرة، سواء حكم الاسلاميون أم القوميون أم غيرهم.

إلى ذلك، يبدو مؤتمر بغداد الذي سيمهد لمؤتمر آخر على مستوى وزراء الخارجية في الشهر المقبل مدخلاً مناسباً لاشراك سوريا وايران في معالجة أزمات الشرق الأوسط. وذلك ليس من قبيل التسامح الدبلوماسي.

تدرك الادارة الأمريكية ان ايران

تمسك بورقة العراق في مفاوضاتها

الحالية واللاحقة، وهي لن تتخلى عن هذه الورقة من دون ثمن سياسي واقتصادي وأمني وصولاً إلى الملف النووي.

لن تكرر ايران تجربتها في أفغانستان، عندما ساندت بقوة تغيير حكم طالبان، وانجاح المؤتمر الدولي في بون سنة 2001 الذي أفضى الى تشكيل حكومة أفغانية جديدة. ايران تريد ثمناً واضحاً ومحدداً هذه المرة لمعالجة الأزمة العراقية، وتخليص الأمريكيين من ورطتهم.

وبقدر أو بآخر، يتكرر هذا المشهد مع سوريا التي أجبرت على مغادرة لبنان منذ سنتين. والتي تريد اعادة الدفع إلى ملف الاحتلال “الاسرائيلي” للجولان لاستئناف المفاوضات من جديد، وذلك بالتزامن مع احترام مصالحها ونفوذها اقليميا. وكيف إذا كانت سوريا قادرة على التأثير في الملفين الفلسطيني واللبناني وهي على علاقة مستقرة مع تركيا؟

هنا، ثمة اشارات أمريكية لسوريا سبقت مؤتمر بغداد، بينها وصول وفد أمريكي خلال شهر فبراير (شباط) الماضي إلى دمشق للتفاوض حول اللاجئين العراقيين في سوريا. هذا عدا عن الأطر الدبلوماسية، المغلقة أو المفتوحة، بين الجانبين ودائماً انطلاقاً من العراق ووصولاً إلى لبنان وفلسطين والملف النووي الايراني..

وبينما يؤيد الرئيس الفرنسي جاك شيراك “خارطة طريق أوروبية إلى دمشق” يتابع منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا حواراً معها توخياً لمعالجة أزمات المنطقة. في المقابل، تمسك دمشق بالتصور العربي للتعامل مع الأزمة العراقية، الذي أقره مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وجاء فيه: “احترام وحدة وسيادة واستقلال العراق، وهويته العربية والاسلامية ورفض دعاوى تقسيمه.. وتحقيق الاستقرار تتطلب حلاً أمنياً وسياسياً متوازياً يعالج أسباب الأزمة، ويقتلع جذور الفتنة الطائفية والارهاب”. وعليه فإنه دمشق ترفض الأعمال الارهابية والطائفية معاً، وتتوخى تحقيق حل أمني وسياسي. ومما لا شك فيه ان دمشق ترفض أي تقسيم للعراق كونها متضررة منه قبل أي اعتبار آخر، لكن ما الثمن الذي تطلبه من الأمريكيين للعب دور فاعل في استقرار العراق؟

اقتربت الوفود المشاركة في مؤتمر بغداد من هدف جدولة الانسحاب الأمريكي والبريطاني، وذلك وفق قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة. وبعدما ترددت الادارة الأمريكية في اقرار هذا الهدف، جاء تقرير بيكر هاملتون ليدفع الادارة نحوه، وليعطيها مسوّغات سياسية وقانونية للانسحاب من بلاد الرافدين، ووضع حد للتخبط الأمريكي هناك. وكأن مؤتمر بغداد حقق دفعاً اضافياً باتجاه هذا الهدف، وبغطاء اقليمي ودولي. حتى صار خطاب الحكومة العراقية الحالية منسجماً مع هذا الهدف، المقبول أو المطلوب من دول الجوار الاقليمي ومن الرأي العام العالمي.

تريد ادارة جورج بوش من مؤتمر بغداد مثل هذا الغطاء لانجاح خطة بغداد الأمنية أولاً، ولتحقيق انسحاب مشرف من العراق يأتي بموافقة أو بطلب اقليمي ودولي. وعليه تكون ادارة بوش قد ساعدت نفسها على ايقاف التخبط في العراق على الأقل، والاستعداد لمعركة الانتخابات الرئاسية الحاسمة في السنة المقبلة.

ماذا يريد العراقيون والحال هذه؟

لقد انقسم العراقيون مذاهب وشيعاً ومللاً ونحلاً، وغادروا ولاءهم الوطني إلى ولاءات أخرى دونية. وإذا كانت هذه الظاهرة موجودة في غير بلد عربي واسلامي، إلا أنها تتمظهر اليوم بمجازر دموية يومية في أنحاء العراق. وعليه فإن أي انحسار لموجة العنف المتنقلة يبقى مطلباً لانقاذ شعب العراق من محنته. هل تساعد المصالح الدولية والاقليمية على إنجاز هذه الأولوية؟ انه السؤال الذي يطارد مؤتمر بغداد وغيره من المؤتمرات اللاحقة.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)