الاتحاد / د. عبد الوهاب المسيري

مَنْ الذي يحرك مَنْ؟ الولايات المتحدة تحرك إسرائيل أم أن إسرائيل من خلال اللوبي الصهيوني تحرك الولايات المتحدة؟ أو كما قال "يوري أفنيري" هل الكلب يحرك الذيل، أم أن الذيل يحرك الكلب؟ للإجابة على هذا السؤال، وربما أي سؤال آخر، يجب على المرء ألا ينغمس في الجدل المنطقي والعقلي، بل عليه أن يختبر بعض فرضياته على محك الواقع ليرى مدى مقدرتها التفسيرية.

ولنضرب مثلاً بعلاقة الولايات المتحدة بالصين. فنجاح الصين ومعجزتها الاقتصادية أصبحا حديث كل الناس (خاصةً في الولايات المتحدة). فالصين تتقدم بسرعة مذهلة، وهي في تقدمها تزداد انفتاحاً على العالم. تعداد الصين يقدر رسمياً بمليار وثلاثمائة مليون نسمة (إلا أنه قد يكون أكثر من ذلك)، وهو يمثل خمس سكان العالم، مما يجعل صعودها أكثر أهمية من صعود اليابان في الستينيات. وتعد العمالة الصينية الرخيصة أكثر وفرة، وبذلك لن تفقد أفضلية رخص التكلفة بسرعة. ومن الواضح أن حجم الاقتصاد له أهميته كذلك في قياس القوة. فالاقتصاد الصيني. يساوي حوالى ثلثي حجم الاقتصاد الأميركي من حيث القوة الشرائية للشعب الصيني. وكان الاقتصاد الصيني ينمو بمعدل 9% سنوياً طوال ربع القرن الماضي، حيث زاد بمقدار ثمانية أضعاف، وأعلن المكتب الوطني للإحصاء مؤخراً أن حجم الاقتصاد الصيني في 2004 كان أكبر من التقدير الرسمي بنحو 17%. وخلال بضع سنوات، سيصل حجم الاقتصاد الصيني إلى ضعف اقتصاد ألمانيا (ثالث اقتصاد في العالم). كذلك سيتجاوز اقتصاد الصين بعد عقد نظيره الياباني (ثاني اقتصاد في العالم)، وتفوق واردات اليابان من الصين وارداتها من الولايات المتحدة، وأصبحت الصين الشريك التجاري الأول لكوريا الجنوبية (الاقتصاد الثاني عشر عالمياً). وإذا ظل ينمو بهذا المعدل فسيتجاوز الولايات المتحدة بحلول عام 2014، أي بعد بضع سنوات. وقد تصاعدت قدرة الصين الإنتاجية التصديرية، ولذا ثمة احتمال أن تصبح الصين أكبر سوق في العالم. وقد زادت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة خلال عشر سنوات من 35 مليار دولار إلى 200 مليار دولار، أدت بالفعل إلى ما يسمى "حرب الملابس" مع أوروبا وإلى توترات مع الولايات المتحدة بشأن انخفاض سعر العملة الصينية. ولم تُسكت إعادة تقويم "اليوان" مؤخراً بنسبة 1 أو 2 في المئة الاتهامات الأميركية بتعمُّد الصين خفض قيمة عملتها لاكتساب أفضلية التصدير.

ويمكننا الحديث عن الحلم الصيني الآخذ في الاتساع بحيث يغطي كافة مناحي المجتمع من اقتصاد وسياسة وتقنية. هذا الحلم، كما تتصوره النخبة الحاكمة في الصين، يخص الصين والعالم بأسره ولا يمكن أن يتحقق -في تصورهم- إلا بناءً عن علاقات تقارب مع المجتمع الدولي، مما سيعود بالفائدة على العالم كله. ويؤكد "زانج يسوي"، نائب وزير الخارجية، هذه الرؤية، مشدداً على التزام الصين بمسار سلمي للتنمية لأجل بناء عالم توافقي. وإن كان "ماو تسي تونج" قد قال يوماً ما إن القوة تنبع من برميل البارود، فإن قادة الصين اليوم يرون أن القوة الناعمة في الوقت الحاضر تنبع من التجارة! فقد أصبحت التجارة والمنافع المتبادلة مع دول الجوار الآسيوي، بل والعالم بأسره، هي طريق الصين إلى حيازة نمطها الخاص من القوة الناعمة والنفوذ العابر للحدود.

ولكن هل هذا مجرد دعاية أو حملة علاقات عامة لتجميل صورة الصين؟ يجيب الدكتور مازن النجار في (إحدى دراساته) بالنفي، فهو يرى أنها محاولة حقيقية وجادة من الصين لبناء قوتها الناعمة، أي القوة التي تتيح لأصحابها قبولاً ونفوذاً من خلال الثقافة والفنون والاقتصاد ونمط المعيشة لدى شعوب وأقاليم العالم، باعتبار أن كل هذا يغني عن استخدام القوة الصلبة (القسرية). إن الصين قوة اقتصادية عسكرية صاعدة تستخدم القوة الناعمة لتحقيق مصالحها الاقتصادية، فما هي المشكلة في هذا؟ أليس من حقها أن تنمي نفسها؟ أليس من الممكن أن يكون هناك أكثر من مركز في العالم؟ ولمَ لا تدخل الولايات المتحدة معها في علاقة تبادلية عادلة، كما يدعي النظام العالمي الجديد؟

كان من المفروض أن هذا الموقف يهدئ من روع الولايات المتحدة ويطمئنها، ومع هذا هناك قلق شديد في الولايات المتحدة واستعدادات عسكرية جارية على قدم وساق. وهنا يمكن أن نطرح هذا السؤال: هل هناك لوبي صيني معادٍ للحكم القائم في الصين، ويطالب بتحريرها وفرض نظام ديمقراطي فيها ونزع أسلحة الدمار الشامل منها؟ وهل هذا اللوبي هو الذي يحرض الولايات المتحدة ويحثها على المواجهة مع الصين، وإعداد العدة العسكرية لهذه المواجهة، أم أن هناك أسباباً خاصة بالمصلحة الاستراتيجية الأميركية وبما تتصوره النخبة الأميركية الحاكمة مصلحتها؟ أعتقد أنه لا يمكن فهم القلق الأميركي النابع من نمو الصين السريع وهذا الاستعداد الأميركي العسكري، إلا في إطار تصور النخبة الحاكمة في واشنطن لمصلحتها. وهي ترفض ابتداءً العلاقة الندية، فالمطلوب هو عالم أحادي القطب على رأسه قوة واحدة، تهيمن فيه الولايات المتحدة على منابع البترول، وعلى معظم الدول المنتجة للبترول، وعلى كثير من الدول التي تعدها مجالها الاقتصادي الحيوي حتى تعادل تراجعها الاقتصادي، وحتى يمكنها أن تحرك أمور العالم بما يلائم "مصلحتها" كما حددتها النخبة الحاكمة وكما حددها المجمع الصناعي العسكري الأميركي. وبالتالي فهم يتحدثون عن مخاوفهم من تراجع "حلم القرن الأميركي" ليحل محله "كابوس القرن الصيني".

وانطلاقاً من هذه الرؤية ومن رؤيتهم التاريخية يرى المحللون الأميركيون أن التوسع الاقتصادي الصيني سيصاحبه توسع عسكري، وأن التغيرات التي تطرأ على التوزيع العالمي للثروة ستكون لها آثارها على توزيع القوة العالمية، حتى وإنْ تحققت تلك التغييرات بالطرق السلمية. وإذا صعدت الصين اقتصادياً، فستهبط أميركا سياسياً. ويلاحظ أن الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية واجهت قوتين: اليابان والاتحاد السوفييتي، الأولى قوة اقتصادية بلا قاعدة عسكرية، والثانية قوة عسكرية بلا قاعدة اقتصادية، ولذا كانت عملية احتواء أي منها مسألة لا تتسم بالصعوبة. كل هذا يقف على طرف النقيض من حالة الصين، فهي قوة اقتصادية هائلة تستند إلى قاعدة عسكرية ضخمة، وهي آخذة في النمو اقتصادياً وعسكرياً. وقد وصفها أحد المعلقين العسكريين بأنها "وول مارت" (أي محل لبيع كل السلع) عنده جيش. لقد ظهرت الصين باعتبارها "منافساً نداً" للولايات المتحدة في شرق آسيا، كما سماها محللو "البنتاجون": أي كقوة عظمى ذات عضلات اقتصادية وعسكرية تتحدى وضع أميركا المتفوق في المنطقة بناءً على الدينامية الاقتصادية للعملاق الآسيوي. فمن المحتمل خلال خمس وعشرين سنة أو أكثر، أن تصبح فاعلاً قوياً ومتقدماً من الناحية العسكرية في شرق آسيا وشرقي المحيط الهادي. ولذا فصعود الصين سيقلل من نفوذ أميركا في المنطقة. وقد تنبأ "لي كوان يو"، زعيم سنغافورة المخضرم، بأن صعود الصين سيغيّر موازين القوى، ويعيد الثقل إلى الشرق لأول مرة منذ وصول السفن البرتغالية في القرن السادس عشر.

تحرك الولايات المتحدة ضد الصين بهذه القوة وهذا الحزم، ليس مرجعه "اللوبي المعادي للصين". فما يحدد موقف الولايات المتحدة من أي قضية هو مصلحتها كما حددتها النخبة الحاكمة وليس أي لوبي مهما كان نفوذه وقوته. واللوبي الصهيوني لا يستمد قوته من التبرعات اليهودية أو الصوت اليهودي أو النفوذ السياسي والاقتصادي لليهود، وإنما كون الدولة الصهيونية تقوم على خدمة الولايات المتحدة، وأنها خادمها بل وكلبها المطيع، وأنه لو قررت الدولة الصهيونية التصرف خارج إطار المصلحة الأميركية فإنها تُصفع صفعة قوية من راعيها الإمبريالي.

والله أعلم.