استبقت الولايات المتحدة وإسرائيلها القمة العربية... حاولتا سلفاً وضع بند على جدول أعمالها. إنه تعديل ما يعرف بالمبادرة العربية التي أعلنت في قمة بيروت وتم تجاهلها من قبلهما لأكثر من نصف عقد... ورغم نفي أكثر من جهة عربية نية بحث مثل هذا التعديل، فإن الموضوع لازال مثار جدل وتسريبات ومزايدات في أوساط المستوى السياسي الإسرائيلي، ومادة إعلامية قيد النقاش المتعالي الوتيرة، ليس إسرائيلياً فحسب وإنما عربياً أيضاً... فتح ملف المبادرة قبيل القمة يستهدف أمراً واحداً هو الإجهاز على حق العودة، وحق العودة هو جوهر القضية الفلسطينية، فإذا ما تم شطبه فيمكن القول أن القضية قد صفيت، وإذا ما حدث هذا فيعني أن هدفاً استراتيجياً أساسياً للصهيونية قد تحقق، وأن العرب قد أقروا نهائياً بهزيمتهم أمامها.
قبل أيام وقف نائب الرئيس الأمريكي، والذي تقول صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن حركة تعديل المبادرة العربية هي من اختصاصه هو والبيت الأبيض وليس وزارة الخارجية الأمريكية، خطيباً أمام المؤتمر السنوي لمنظمة الضغط اليهودية الأمريكية "إيباك":

"إن الولايات المتحدة لن تترك أفضل صديقة لها، إسرائيل، في وضع خطير في المنطقة"، وإن الانسحاب من العراق "من دون تحقيق الحسم يمكن أن يلحق أشد الضرر بإسرائيل"... إذن ومن أجل عيون أفضل صديقة للولايات المتحدة، فإن مسألة الحسم المتعثرة في العراق مطلوبة بالنسبة للمحافظين الجدد، وإن على من يعتبر نفسه صديقاً لواشنطن من العرب، وإن لم تبادله هي ذات الشعور، أن يستجيب لإيحاءاتها بفتح ملف التعديل... ما هو هذا التعديل المطلوب؟!

للإجابة علينا التسليم بأن مجرد فتح هذا الملف في القمة العربية بإيعاز أو ضغط أمريكي يعد أمراً لو تم - وهو الذي لم يعلن حتى الآن عربياً عن نية فتحه بل تم نفيه إلى حد ما حتى الآن من طرف عربي أو اثنين - لن يعني سوى محاولة تحويل ما يعرف بالمبادرة العربية إلى مبادرة إسرائيلية، بمعنى تفريغها مما لا تريده إسرائيل من متواضع المطالب العربية ذات الحدود الأقل من الأدنى، لتغدو من ثم في منزلة القبول الإسرائيلي للتفاوض حولها أو عليها في صورتها الجديدة، وليس قبولها... أمن أجل هذا، واستباقاً للقمة، نتوقع وصول كونداليسا رايس إلى المنطقة قريباً؟

هذا ما تقوله المصادر الإسرائيلية عندما تصر على أن واشنطن تدير اتصالات لطرح موضوع التعديل على جدول القمة وهو تعديل ترى "هآرتس" أنه يعد "مدخلاً لتغيير النماخ السياسي في المنطقة على خلفية المصالح المشتركة مع محور الاعتدال"!
...وهذا التعديل عند الصحيفة الإسرائيلية يكون "بتحويلها إلى قاعدة متفق عليها لاستئناف العملية السياسية"، ولهذا اشتراطات إسرائيلية... ما هي؟

تروي "هآرتس" أن أولمرت، الذي يبرر قبوله البحث في المبادرة بعد تعديلها ب"التطورات الإيجابية" العربية، قد أبلغ الأوروبيين الباحثين دوماُ على دور لهم يقع على هامش الحركة الأمريكية الإسرائيلية أو عبر السير خلفها، أن "إسرائيل لن تقبل أبداً القرار 194، وهذا خط أحمر من وجهة نظرنا، ولكن كل ما هو دون هذا الخط الأحمر، وخصوصاً الحلول الخلاقة للاجئين والتي لا تنطوي على دخولهم لإسرائيل قابلة للبحث"!

وهنا، يأتي دور وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي لفني في إدارة اللعبة... تسيبي التي أنذرت العرب سلفاً: "لا تنتظروا أن يأتي السلام قبل أن تطبعوا العلاقات معنا"!... والمعروف أن المبادرة العربية عرضت التطبيع مع العدو التاريخي مقابل جنوحه للسلام مع العرب، هؤلاء الذين خلت مبادرتهم أصلاً من التمسك الواضح بحق العودة... وإنما تحدثت عن حل عادل لمسألة اللاجيئين يستند إلى القرار 194 الذي ينص على هذا الحق، لفني هنا قلبت المعادلة، التطبيع أولاً و السلام ثانياً!
...ولم تكتفي بهذا، فكررت أمام "إيباك"، ما لن يقبل إسرائيلياً، فقالت:

إن في المبادرة العربية بندان إضافيان يطرحان مشاكل لإسرائيل، الأول، يشير إلى القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة والذي ينص على عودة اللاجيئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والثاني يؤكد على عدم وجود حل للاجيئين الفلسطينيين في الدول المتواجدين فيها حالياً، وهذا يناقض تماماً مبدأ الدولتين"! إذن المطلوب من العرب ليس شطب حق العودة فحسب وإنما توطين الفلسطينيين في منافيهم أيضاً!

هل شطب حق العودة كلياً، والقبول بالتوطين هما فقط شرطا القبول بالمبادرة العربية؟

في حومة الجدل حول الأمر يقول أحد المعلقين الإسرائيليين أن "على إسرائيل أن توضح لنفسها عدة أمور، ليس فقط رفض حق العودة، والذي هو إجماع وطني، بل ومصير القدس أيضاً. فهل ستوافق على تقسيمها؟ أريئيل شارون أيد خريطة الطريق لأنه حصل، حسب اعترافه، على وعد من الرئيس بوش بأن تبقى الكتل الاستيطانية الكبرى في يهودا وسامرة في يد إسرائيل. فهل ستتمسك الحكومة بهذا المبدأ؟!"

إذن، المبادرة العربية أصلاً مرفوضة من قبل المطالبين بتعديلها، وإنما لا بأس من أن تكون مادة استدراج لتنازلات عربية متدحرجة، تأتي عادةً في إطار تنازلات متوالية تجر واحدتها الأخرى، بدأت في كامب ديفيد الأولى، وأوسلو، ووادي عربة، وحتى كامب ديفيد الثانية، وهلم جراً... وبعيداً عن المناورات، فلسان الحال الإسرائيلي يقول أنه لو قبل العرب بالتنازل عن حق العودة فلن نقبل مبادرتهم، وإنما سوف نتفاوض حول حدود قبولها المفترض لا أكثر... تقول "هآرتس":

إن المبادرة العربية "مجدر إعلان مبادئ، ليست خطة مفصلة. وبهذا الشكل يمكن إطلاق الشعارات، والمساومة على الصياغات، وتعجيل دفع الثمن الداخلي المرتبط بانسحاب من الضفة وهضبة الجولان"... ألهذا تقول ليفني أنه لا ينبغي على إسرائيل الرد على المبادرة العربية "بالنفي أو الإيجاب"؟!!!

...تعقيباً على إعلان أولمرت القبول بمبدأ البحث في المبادرة العربية بعد تعديلها، قال شطريت؟

"اقترحت على أولمرت قبول المبادرة السعودية قبل شهور، ولكنه قال لي أنها ليست على جدول أعماله، وفجأة وقبل أيام قال بوجوب دراستها! "... ترى ما هو سر هذا التبدل الأولمارتي؟!

سببان يُجمع الإسرائيليون، قبل سواهم، وراء هذا القبول، هما:

الرغبة الأمريكية التي مدعاتها أن الإدارة في واشنطن، كما يقول الإسرائيليون والأمريكيون، وأيضاً قبل سواهم، قد باتت عاجزة عن تمرير سياساتها في المنطقة، أو إنقاذ مشروعها العراقي، أو مواجهة الملف النووي الإيراني، من دون بلورة حلف "معتدلين" وفق التوصيف الأمريكي، الذي لن تقوم له قائمة من دون، ووفق التعبير الإسرائيلي، "التظاهر بحل القضية الفلسطينية"!

والثاني: أن أولمرت الذي تجمع الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية على تدهور مكانته في الحلبة السياسية، بل بدأ الحديث حتى عن توقع تفكك حزبه "كاديما" واندثاره، "يريد بديلاً خارجياً"، وليس هناك موضوع هو أكثر مداعاة اهتمام من قبل الشارع الإسرائيلي من الحديث حول ما يدعى السلام وفق الاشتراطات الإسرائيلية، بمعنى آخر، أو كما تقول "هآرتس"، إن تدهور مكانته هذه قد دفعته "لرؤية الجوانب الإيجابية التي توفرها المبادرة العربية". إذ لا بأس من اعتبارها "جدول أعمال سياسي"، وفق تعبير الصحيفة، لأنها، كما قالت، "تمنحه فرصة الإنعاش، إذا أفلح في إظهار تقدم سياسي، إذ ليس لديه ما يخسره، خاصة بعد تجنب حتى بنيامين نتانياهو رفض المادرة العربية بشكل مطلق"... لا سيما وأن "القناة السورية مسدودة"، كما لاحظت "هآرتس"، وأن "المحادثات مع عباس لا تؤدي إلى أي مكان وتثير أساساً التثاؤب لدى الجمهور الإسرائيلي"!

وعليه تخلص الصحيفة إلى أن أولمرت "بحاجة ماسة لمبادرة سياسية تمنحه أوكسجيناً سياسياً"، لا سيما وأن السحر في المبادرة العربية، كما قالت، "ينبع من كونها إعلان مبادئ فقط وليست خطة تفصيلية"!!!

...ويبقى السبب الثالث، والأهم، الذي لا يتعرض لذكره الأمريكيون والإسرائيليون، هو أن التنازل عن حق العودة، وقبول التوطين، وتمسك الإسرائيليين بالقدس والمستعمرات إنما هي أمور تعد بمثابة الخطوة الأخيرة للوصول إلى تصفية القضية الفلسطينية... وإلى أن تُعقد القمة ويتأكد لنا النفي العربي لنية البحث في تعديل المبادرة من عدمه، ستتوالى الضجة حول المسألة وسيتوالى توظيفها في ذات السياق، بالتوازي مع الضغوط الأمريكية على العرب.

وهنا تجدر الإشارة إلى ما كشفه الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك، الأمين العام السابق لحلف الأطلسي، من أن وزارة الحرب الأمريكية قد أصدرت في عام 2002 مذكرة "تصف كيف ستجهز الولايات المتحدة على سبع دول خلال خمس سنوات، تبدأ في العراق، ثم سوريا، مروراً بلبنان والصومال والسودان وتنتهي بإيران"... اليوم ثبت أن المقاومة العراقية والأفغانية وبمساهمة من الحماقات والإخفاقات الأمريكية قد بددتا هذا الحلم البنتاغوني، أي أثبتت الوقائع أن الأمريكان ليسوا قدراً، وعليه، وإذا كانوا كذلك، هل ستخيب القمة العربية آمالهم التعديلية أم آمال شعوبها؟!!...
إنه سؤال برسم هذه القمة!