يتوجب أن نقر للرئيس الأميركي أنه عندما يتحدث عن مأزق بلاده في العراق يتقيد بحد أدنى لا ينزل عنه من معايير الأمانة في الخطاب السياسي! إنها المعايير التي تتمثل على الأقل في قدر من تكامل عناصر الخطاب وفي قدر من الاستقامة في تحديد الهدف. إن الرئيس الأميركي يعترف بصعوبة موقفه، وبفعالية المقاومة العراقية التي تواجهه، وبأثر ذلك مباشرة على الولايات المتحدة وخطره على أمنها الداخلي ومكانتها الدولية، ثم نسمعه يؤكد على تصميمه أن يربح الحرب، وهذا حقه بغض النظر عن عدالته أو عدم عدالته!

وعندما يتحدث رئيس وزراء الكيان الصهيوني عن حربه الأخيرة ضد لبنان نسمعه يعترف أنها كانت مقررة قبل أشهر (أي ليس بسبب أسر الجنود الإسرائيليين!) وأن الإدارة الأميركية كانت وراء قرار الحرب الإسرائيلي، وأن أداء الجيش الإسرائيلي كان سيئاً! وإن في هذا الخطاب السياسي الإسرائيلي أيضاً قدر من التكامل الضروري في العناصر التي يقتضيها الحد الأدنى من الأمانة!

في الحقيقة نحن لا ندري ماذا كنا سنفعل لو حجبت عنا خطابات قادة العدو ومناقشات واعتراضات معارضيهم في بلدانهم، فالخطاب السياسي العربي عموماً، الرسمي وغير الرسمي، يفتقر إلى الحد الأدنى من معايير الأمانة، وأولها التكامل والاستقامة، أي تماسك عناصره ووضوح هدفه، وإذا ما اعتمدنا عليه وحده فسوف نضيع تماماً، حيث تصبح الحرب في العراق مجرد انفجارات إرهابية وصراعات مذهبية وعرقية ومناطقية، وحيث تصبح الحرب ضد لبنان مجرد كارثة تسببت المقاومة في حدوثها، فكأنما كل شيء كان على ما يرام لو لا ما يسمى مقاومة في العراق ولبنان، وأن كل شيء سوف يكون على ما يرام في حال غياب هذه المقاومة!

***

خلال الشهرين الأول والثاني من هذا العام تعرضت الأمة لامتحان عسير وخطير جداً وضعها على حافة هاوية سحيقة، لو سقطت فيها لما خرجت منها طيلة سنوات، بل طيلة عقود مفتوحة من الصعب تحديد نهايتها! لقد كان امتحاناً أشبه بالكمين نصبه لها العدو في بغداد، نعني كمين الحرب الأهلية، الذي أراد العدو بواسطته قلب الموقف العام رأساً على عقب، بعد تعثر وتخبط وانكفاء قواته المحتلة، فكيف تعامل الخطاب السياسي العربي مع هذا الكمين الذي هدف إلى إشعال فتيل اقتتال داخلي إقليمي واسع النطاق، يتكفل بإنهاء المقاومة وبتمكين العدو من تحقيق أهدافه الإستراتيجية التي عجز عن تحقيقها بفعل المقاومة؟
لقد اندفع الخطاب السياسي العربي عموماً ليؤكد على إمكانية بل ضرورة نشوب الحرب الأهلية! فهو راح يعمم بحماسة تصنيفاً آخر للأولويات الوطنية والقومية والإسلامية، فصار الخطر الأول في العراق هو المقاومة الوطنية والبعثيون! وصار الخطر الأول في لبنان هو المقاومة وحزب الله المدعوم من إيران وسورية! وصار الخطر الأول في فلسطين هو المقاومة الإسلامية التي تعيق العملية السلمية! لقد أصبح الخطر الأول هو هذا المذهب أو ذاك من المذاهب الإسلامية، وهذا الفصيل أو ذاك من الفصائل الوطنية، أما خطر الاحتلال الأميركي والاستيطان الصهيوني فقد غدا ثانوياً وأقل أهمية في الخطاب السياسي العربي، بل جرى تجاهله في معظم الأحيان!

***

لقد كان مقدراً لذلك الكمين الأميركي الصهيوني أن يحقق أهدافه، غير أن الأمة تجاوزته بنجاح، وهذا التجاوز في حد ذاته انتصار تاريخي للأمة إذا ما أخذنا بالاعتبار الاحتمالات الجدية لنشوب حرب أهلية محدودة أو شاملة، غير أن الخطاب السياسي العربي بدا عموماً منزعجاً ومنفعلاً لأن مثل هذه الحرب القذرة لم تنشب! وها هو يواصل تأكيده على توفر كل ما من شأنه نشوبها، فيصر على أن الأمة ليست واحدة، وعلى أن الإسلام ليس واحداً، وعلى أن المقاومة ليست وطنية ولا قومية ولا إسلامية بل مجرد إرهاب! مع أن الخصائص التي يستند إليها الخطاب في توصيفه موجودة عند كل أمة من أمم الأرض، كبيرها وصغيرها وقويها وضعيفها، فأين هي تلك الأمة الواحدة التي لا تتكون من مذاهب وأعراق ومناطق واتجاهات مختلفة؟ وهل اجتازت شعوب البلقان مثلاً كمين الحرب الأهلية الطائفية العرقية المناطقية، كما اجتازته أمتنا؟!

***

من الطبيعي أن العدو ما كان ليراهن على نشوب حرب أهلية داخلية لولا أن هناك من العرب والمسلمين من زين له توجهه، ووعده بالمساعدة والنجاح في تجاوز مأزقه وتحقيق أهدافه الأساسية! إنه تحالف الخيانة والانتهازية والجهل المنتشر في أوطاننا، والذي لا يتمتع خطابه السياسي بالحد الأدنى من معايير الأمانة التي يلتزمها قادة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني! وإنه ليتوجب علينا أن لا نستخف بهذا التحالف وبإمكاناته المادية والإعلامية، فهو نجح فعلاً خلال الأشهر الماضية في إرباك الأمة وإحراجها، وفي خلق ما يشبه الجفوة بين أوساطها وأطرافها وفعالياتها، ومن الواضح أن هذا التحالف سوف يواصل تقديم خدماته للعدو، وسوف يواصل استثمار العمليات الإرهابية المصطنعة، ذات الطابع المذهبي أو العرقي المصطنع، لإرغام أطراف الأمة إرغاماً على الدخول في استقطابات دينية أو عرقية تدفعها إلى التخلي عن المقاومة وتركها تنكفئ وتتلاشى، بينما تنخرط الأمة في عمليات تآكل ذاتي داخلي مميت!

إن أطراف تحالف الخيانة والانتهازية والجهل موجودة في جميع البلدان، في العراق وإيران وفلسطين ولبنان وفي كل بلد آخر، وإنها لأشد خطراً من الأعداء الخارجيين، حيث البلدان والشعوب والأمم يستحيل اقتحامها إلا من داخلها وبالاعتماد على مثل هذه التحالفات، وفي مواجهة هذا الخطر ينبغي على الأحرار المخلصين لأمتهم الارتقاء بخطابهم السياسي، بالمزيد من التقيد بمعايير الأمانة، وأولها التكامل والاستقامة.