من يتابع تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بعد الزيارة (الناجحة) التي قام بها المنسق الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا إلى دمشق الأسبوع الماضي، يستنتج ببساطة صحة المثل القائل (مصائب قوم عند قوم فوائد) ولكن بعد أن يتم قلبه رأساً على عقب، فيصبح (فوائد قوم عند قوم مصائب).

بعد إعلان سولانا أنه سيعمل (بكل جهد لنرى سوريا قد استعادت أراضيها التي خسرتها عام 1967) سارع عضو الكنيست عن حزب العمل أوفير بينيس بتقديم اقتراح عاجل إلى جدول أعمال الكنيست لعقد جلسة يتم فيها بحث أقوال سولانا.

أما وزير الخارجية السابق وعضو الكنيست عن حزب الليكود سيلفان شالوم اعتبر تصريحات سولانا إنما تعكس (انهياراً سياسياً شاملاً)، وأضاف (بعدما قررت أوروبا التحدث مع حماس، أعلنت اليوم عن دعمها لتسليم الجولان لسوريا، وهذا تطور خطير ومقلق، يلزم بإجراء استعدادات طارئة لإيقاف هذا الانهيار).

إن ما تنوي القيام به إسرائيل لاحتواء العودة السورية بقوة إلى ساحة الشرق الأوسط، مبني على قاعدة بسيطة لطالما عرفها وعمل على أساسها الساسة الإسرائيليون وهي: (ما يهمنا هو ما تنفذه الولايات المتحدة من سياسات على الأرض، وليس ما يعلنه المسؤولون الأمريكيون في مؤتمراتهم الصحفية حتى، ولو كانت على لسان رئيسهم).
وهذه القاعدة، وللأسف، لم يستطع كثير من العرب اكتشافها بعد، فمازالوا يبنون آمالهم ومخططاتهم، على وعود ومؤتمرات صحفية، هي ربما للاستهلاك المحلي في جانب كبير منها.

عموماً، إن بوادر انفراج العلاقات السورية مع العالم الغربي وفي مقدمته الولايات المتحدة، بدأت منذ شهور مضت، وتحديداً مع نجاح الديموقراطيين بتحقيق انتصار مزدوج لهم في مجلس النواب الأمريكي في تشرين الثاني الماضي، وهو ما جاء متزامنا مع تقرير (لجنة بيكر- هاملتون) الذي دعا البيت الأبيض إلى فتح حوار مع كل من إيران وسوريا لإيجاد مخرج للوضع المتدهور في العراق.

في تلك المرحلة استند بعض من العرب إلى أقوال الرئيس الأمريكي جورج بوش برفض معظم ما جاء في التقرير المشار إليه، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار الخطوات الاستباقية التي اتخذها بوش ذاته لمواجهة نفوذ الديموقراطيين المتزايد والمعارض للحرب في العراق.

وكان من أبرز تلك الخطوات استبدال السفير الأمريكي أو (العصا الغليظة) إذا جاز التعبير، في الأمم المتحدة جون بولتون، وقبول استقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وتعيين بدلاً عنه روبيرت غيتس، صاحب الرؤية المختلفة لإدارة الوضع في العراق، بل كان أحد أعضاء لجنة بيكر -هاملتون.

تلك الإرهاصات المبكرة، مع عدم تورط دمشق بمسلسل التنازلات، انتهت بفتح صفحة جديدة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ستعيد رسم التوازنات، ولكن تحت قاعدة (كل حسب ثقله).

وتلك الإرهاصات أيضاً، التقطتها القيادات الأوروبية، فبدأت بعض الدول بالتحرك نحو سورية لفتح قناة حوار معها، حتى لا تتأخر كثيراً عن المبادرة الأمريكية التي بدأت معالمها بالوضوح، فسرعان ما تحول الموقف الأوروبي المقاطع منذ عامين، إلى قرار برفع الحصار اتخذ وبإجماع زعماء 27 دولة بمن فيهم الرئيس الفرنسي جاك شيراك على هامش القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسل قبل أيام، وهذا القرار الانقلابي تم ترجمته عملياً وسريعاً، بإرسال سولانا إلى دمشق.

ما يحز في القلب أن بعضاً من السياسيين العرب، والأقلام الصحفية التي تعزف ضمن جوقة هؤلاء، لم يكتشفوا بعد أن شيئاً ما يتغير في البيت الأبيض تجاه سوريا، أو ربما اكتشفوا، ولكن ما باليد من حيلة سوى السعي لإبقاء المعادلة الحالية كما هي، لأن تغيرها يعني زوال عهدهم.

ووفق المعادلة الأخيرة، نقلت وروجت وسائل إعلام مختلفة، ومعظمها لبنانية محسوبة على تيار الموالاة، عن سولانا قوله في الغرف المغلقة إنه يزور دمشق لفرض إملاءات وشروط أوروبية موحدة، لإلزام العاصمة السورية القبول بالمحكمة الدولية والتعامل معها، وإلزامها التعاون من أجل استقرار الأوضاع في لبنان والإبقاء على الحكومة العتيدة الحالية، مؤكدة أن سولانا لن يفتح غير الموضوع اللبناني مع القيادة السورية.

الحملة الإعلامية السابقة، والمتواصلة أساساً منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، لا تضع مسؤولية ما يجري في لبنان على دمشق فقط، وإنما تتعامل مع المعارضة اللبنانية التي باتت تشكل أكثرية الشارع، وكأنهم قطيع من الغنم لا رأي لهم سوى الاستجابة للرغبات السورية والإيرانية.

إن وسائل الإعلام تلك ومن يقف وراءها، تتغافل بجهالة أو بقصد، عن التصريحات الرسمية التي أدلى بها سولانا خلال جولته على كل من لبنان والسعودية وسوريا، بل إن ما تروج له عن لسانه في الغرف المغلقة، يكاد يختلف 180درجة عما يعلنه المسؤول الأوروبي أمام الملأ، وهنا يبرز الفرق الشاسع بين أداء من يمتهن السياسة في إسرائيل، الذين يأخذون بالأفعال الأمريكية لا بالأقوال كما أسلفنا، وبين من يدعي امتهانها من العرب.

هناك قاعدة بسيطة في السياسة تقول: لا توجد صداقات دائمة ولا توجد عداوات دائمة، والدول تبني سياساتها وفق مصالحها الوطنية، وبالتالي فإن من راهن على تجذر الخلاف بين دمشق وواشنطن، لم يحسب بأن الوقائع على الأرض لربما تغير من طبيعة هذه المعادلة، كما أنه لم يدرس تاريخ العلاقات السورية الأمريكية جيداً، فهذه ظلت وخلال الأربعين سنة الأخيرة، في مد وجذر، لكنها لم تصل يوماً إلى مستوى القطيعة أو الإلغاء، رغم الحروب العديد التي خاضتها إسرائيل في المنقطة بالنيابة أو عبر ضوء أخضر أمريكي.

ما نريد أن نقوله هنا إنه عندما تأتي الولايات المتحدة بجيوشها إلى المنطقة وتحتل العراق وتعلن أنها ستطبق سياسة الفوضى الخلاقة على باقي دول المنطقة وفي مقدمتها إيران وسوريا، فمن الطبيعي أن تسخر كل من هاتين الدولتين كامل إمكاناتهما لوقف الزحف الأمريكي عند الخطوة الأولى.

بل إنه من الضروري، ووسط المخاطر المحدقة بهما، أن يزداد التقارب بين دمشق وطهران، وتم تجسيد هذا أخيراً عبر تصدير طهران لتكنولوجيا صناعة السيارات إلى دمشق، لتصبح إيران أول دولة تقوم بذلك وسط الحصار الدولي على سوريا، والأمر لم يقف عند هذا الحد، وإنما تعداه إلى استعداد إيران لتصدير تكنولوجيا الصناعات العسكرية، وهو ما أعلنته طهران رسميا خلال زيارة وزير دفاعها الأسبوع الماضي إلى دمشق.

بات واضحا اليوم أن السياسات المضادة التي اتبعتها كل من دمشق وطهران للمخطط الأمريكي، قد بدأت تأتي أكلها، فحضرت العاصمتان بقوة في مؤتمر الأمن الذي عقد ببغداد تحت رعاية أمريكية رغم كل الاتهامات لهما بأنهما وراء تفشي الإرهاب في العراق، وصارت دمشق هي التي تضع الشروط لاستقبال المسؤولين الأمريكيين بعد محاولتها لسنوات فتح قنوات حوار مع واشنطن، وعادت المياه الدافئة إلى العلاقات السورية الأوروبية، ثم إلى العلاقات السورية المصرية، عبر الزيارة الأخيرة التي قام بها نائب الرئيس فاروق الشرع إلى القاهرة.

كما ونجحت المساعي السورية أولاً، والسعودية ثانياً، في أن ترى حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية النور، عبر إنجاز شراكة بين حركتي (فتح) و(حماس)، تمهيداً ربما لإعادة العلاقات السورية السعودية إلى سابق عهدها قبيل موعد انعقاد القمة العربية في الرياض.

ويبقى الملف اللبناني متأرجحاً مع تخندق تيار الموالاة خلف مواقفه الاستئصالية، التي يبدو أنها لن تبقى على حالها طويلاً وفق المصالح الأمريكية الجديدة، ولربما نشهد قريباً، رموزاً من هذا الخندق، وقد تغيرت ولاءاتهم، أملاً منهم في البقاء على ساحة الفعل اللبنانية.
ويمكن أن نسجل في قسم مما سبق إنجازاً كبيراً للسياسة السورية، وهو إنجاز تم بناؤه على تحصين الوضع الاقتصادي الداخلي أولاً، والاستفادة من العلاقات الطيبة مع الدول الحليفة ثانياً، وفق معرفة دقيقة بحجم القوة السورية.