لا يختلف اثنان على ان احد اهم معالم الديموقراطية في أي نظام سياسي ، هو ان ينقاد الجيش والمؤسسة الامنية في ذلك النظام الى الحكومات المفروزة انتخابيا ، بحيث يكون الجيش هو منفذ السياسات التي ترسمها الحكومات . لكن عندما يتحول الجيش الى مبلور السياسات ومنفذها في آن معاً ، فإنه لا يمكن توصيف هذ النظام ب " الديموقراطي " . ونحن هنا بصدد اختبار " ديموقراطية " النظام السياسي في اسرائيل ، وفق الاعتبار انف الذكر .

وفق كثير من الشواهد فإنه يمكن القول ان المؤسسة الامنية في الدولة العبرية لا تقرر فقط – السياسات وتنفذها ، بل انها ترفض في كثير من الاحيان تطبيق التعليمات المباشرة ، الصادرة عن الحكومة ، بشكل فج ، ناهيك عن احتكار التأثير على دوائر صنع القرار السياسي في الدولة ، فضلا عن رفضها ان يكون لاي اطار مدني تأثير على المستوى السياسي الحاكم . الى جانب ذلك فإن الاجهزة الامنية الاسرائيلية تلعب دورا واضحا وجليا في الشؤون الداخلية للاحزاب السياسية ، بما يتناسب مع تطلعات قادتها المسقبلية .

ونحن هنا بصدد التدليل على ما تقدم .

رفض تنفيذ تعليمات الحكومة ، وفرض سياسات مستقلة

في اواخر العام 1998 ، طلب رئيس الوزراء الاسرائيلي في حينه ، بنيامين نتنياهو، من هيئة اركان الجيش، تحضير خطة لانسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان ، بعد ان تعاظمت الدعوات الجماهيرية للانسحاب من المنطقة ، اثر الخسائر الفادحة التي كان يتكبدها الجيش . يكشف الصحافي الاسرائيلي بن كاسبيت النقاب عن ان رئيس الاركان في ذلك الوقت شاؤول موفاز ( وزير الدفاع الحالي ) ، رفض باصرار تنفيذ تعليمات نتنياهو ، واصر على عدم تقديم أي مساعدة له في ذلك السياق . وكما يكشف كاسبيت ، فقد حذر نتنياهو خلفه براك من ان عليه ان يدفع الجيش للانسحاب من جنوب لبنان بالقوة . براك وعلى الرغم من معارضة قادة الجيش ، نجح في سحب قواته ، لانه سبق له ان ضمن حملته الانتخابية وعدا للجمهور بالانسحاب من هناك . لكن قادة الجيش لم يقفوا مكتوفي الايدي اثر ما اعتبروه " تجاوزا لوجودهم " ، فردوا لبراك الصاع صاعين ، فعندما حاول براك التفرغ لدفع المفاوضات على المسار السوري ، قام الجنرلات بتسريب وثيقة لقادة المعارضة الليكودية في حينه ، اطلق عليها وثيقة " تشاوبر " ، تدعي ان براك يعد لتقديم تنازلات " قاتلة لاسرائيل " في هضبة الجولان . يتهم يوسي بيلين الذي شغل منصب وزير القضاء في حكومة براك ، صراحة قادة الجيش بتسريب الوثيقة من اجل احراج براك سياسيا . لكن انتقام الجيش من براك – الذي تجرأ على تجاوزهم – لم يعرف حدودا ، فعشية توجهه لحضور مؤتمر " كامب ديفيد " ، الذي جمعه مع عرفات والرئيس كلنتون في اواخر العام 1999 ، للبحث عن حل لقضايا الحل الدائم مع السلطة ، رفض الجيش التعاون مجددا مع براك ، لدرجة ان هيئة اركان الجيش رفضت تزويد براك بخرائط ليحملها معه الى " كامب ديفيد " ، الامر الذي دفع نائب وزير الدفاع الاسرائيلي في حينه ، افرايم سنيه الى ان يوجه رسالة تنطوي على مرارة كبيرة ، حيث قال له بالحرف الواحد " العسكريون من رئيس هيئة الاركان وحتى أصغر ضابط لا ينفذون أوامرك وان كل واحد منهم يفعل ما يحلو له " .

وعلى الرغم من كل هذا ، فقد جبن براك عن مواجهة قادة الجيش ، اذ ان الانتخابات كانت قد اقتربت وخشي ان يؤدي أي خلاف علني من قادة الجيش الى خسارته الانتخابات . وفي عهد حكومة شارون الاولى ، ظل قادة الجيش يرفضون تنفيذ تعمليات الحكومة ، فقد تباهى رئيس الاركان موفاز ، بانه امر باعتقال امين سر حركة " فتح " في الضفة الغربية مروان البرغوثي ، على الرغم من معارضة الحكومة لذلك . وحسب اقرار وزراء في حكومة شارون ، فقد لعب الجيش دورا بارزا في اجهاض الهدنة مع الفصائل الفلسطينية التي تبلورت بوساطة مصرية في اواخر حزيران من العام 2003. ويقر وزير البنى التحتية الاسرائيلي السابق يوسي بيريتسكي ، ان وزراء في الحكومة كانوا يعلمون ان الجيش هو المسؤول عن انهيار الهدنة التي منحت اسرائيل 45 يوم من الهدوء ، وهو الذي احبط حكومة ابو مازن ، لكنهم خشوا الاعتراض على سياسة الجيش . اللافت للنظر ان ادراكاً متزايدا لدى الساسة والنخب المثقفة في اسرائيل ان الكثير من الاعتبارات التي يقدمها الجيش ، تنطلق من ثقافة الكذب المستشرية في الاوساط القيادية للجيش والمخابرات ، فهاهو عكيفا الدار ، كبير معلقي صحيفة الصفوة " هارتس " يقول " قادة المخابرات عندنا يعرفون ان ليس كل الفلسطينيين الذين تمت تصفيتهم بلا محاكمة يستحقون لقب "قنبلة متكتكة". لقد اعتاد هؤلاء القادة على "تدوير الزوايا" والعيش مع الأكاذيب بسلام "

احتكار التأثير على دائرة صنع القرار السياسي

ان كانت المؤسسة الامنية ترى ان من حقها رفض تنفيذ سياسات الحكومة بعد اقرارها ، فان هذه المؤسسة في معظم الاحيان تنفرد بالتأثير على الحكومة قبل ان تعلن الاخيرة سياساتها العامة . كلا من جهاز المخابرات الداخلية " الشاباك " ، وشعبة الاستخبارات العسكرية " امان " ، هما اكثر الاجهزة الامنية تأثيرا على دائرة صنع القرار السياسي . وعلى الرغم من انه لا يوجد قانون ملزم لها بذلك ، الا انها جرت العادة ان تقوم الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة بالتشاور مع هذين الجهازين تحديدا قبل اتخاذ أي قرار ذو طابع استراتيجي ، وفي كثير من الاحيان لا تتجرأ الحكومات على تجاهل توصيات " الشاباك " و " امان " . وحتى في اسرائيل نفسها هناك شعور بالذهول ازاء الدور الذي يعلبه هذان الجهازان في املاء تقييماتهما على الحكومة ، على الرغم من ان هذه التقييمات في كثير من الاحيان ذات منطلقات ايدلوجية وليست مهنية ، كما يؤكد عوزي بنزيمان ، احد كبار المعلقين في الدولة العبرية . ويقول بنزيمان " الايديولوجيا هي العامل الحاسم في تحديد توصيات و مواقف الاجهزة الامنية وليس الاحتراف المهني " . ويعتبر بنزيمان ان الجنرلات " مجرد سياسيين في زي عسكري " .اللافت للنظر انه حتى قادة الاستخبارات المتقاعدين يقرون ان التوصيات التي يحاول العسكر تسويقها كوجهات نظر مهنية ، هي في الاغلب " تخمينات " ، كما يؤكد الجنرال شلومو غازيت ، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات ا لعسكرية . اما ابراهام تيروش ، سكرتير الحكومة الاسرائيلية في عهد مناحيم بيغن ، فيؤكد ان بيغن لو انصت لقادة الجيش ، لما تم التوقيع على اتفاقية " كامب ديفيد " ، التي لا ينكر احد مدى مساهمتها في تحسين الوضع الاستراتيجي لاسرائيل (9) . ويرجع المعلق العسكري الجنرال زئيف شيف التاثير الواسع للاستخبارات على دائرة صنع القرار الى ضعف القيادة السياسية .

التدخل في الشؤون الداخلية للاحزاب

التطلعات الشخصية المستقبلية للجنرالات تجعلهم في كثير من الاحيان طرف مباشر وغير مباشر في المناكفات السياسية بين الاحزاب وبعضها البعض وفي داخل الحزب الواحد . فبعد ان اعلن شارون عن خطته لاخلاء مستوطنات قطاع غزة ، قام رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في حينه اهارون زئيفي بتحريض نواب اليمين في الكنيست على شارون ، بالقول ان مثل تنفيذ هذه الخطة " يمثل تشجيعا للارهاب " . وبالفعل اصبحت تفوهات زئيفي هذه مادة دسمة يستخدمها نواب اليمين في تبرير مهاجمتهم لخطة شارون . ليس هذا فحسب ، بل ثبت ان الجيش يتجسس على قادة المعارضة من اجل توفير مبررات لشارون لمهاجمتهم . وقد تجلى ذلك عندما زودت المخابرات شارون بمعلومات تؤكد ان رئيس المعارضة في حينه شمعون بيريس التقى سرا مع رئيس الوزراء الفلسطيني احمد قريع ، وقد استخدم شارون هذه المعلومة من اجل مهاجمة حزب العمل . الكاتبة ياعيل باز ملميد ، تفسر هذا السلوك بتطلع قادة الجيش لكسب رضى جمهور اليمين، عبر طرح مواقف متطرفة تلقى استحسانا لديه ، وهذا يساعدهم في الفوز بمواطئ قدم في هذه الاحزاب بعد تسرحهم من الجيش .

الترقيات و" الاصطفاء " وفق معايير " الشللية "

قادة الجيش الاسرائيلي ، وازاء هذا القدر الهائل من التأثير سمحوا باستشراء معايير هي اقرب الى معايير العالم السفلي منه الى جيش منظم يخضع لرقابة اجهزة الدولة والتشريعية . قد يبدو هذا غريبا في ظل الانطباع السائد والمضلل حول هذا الجيش وثقافته. صحيفة " معاريف " في عددها الصادر بتاريخ (13-9-2002) نشرت ان قادة الجيش ابان حكم براك غضبوا عندما اكتشفوا ان عميدا في الجيش يدعى شاؤول ارئيلي ، وافق على اقتراح براك بتولي المسؤولية عن ملف الامن في المفاوضات مع السلطة . وكما تؤكد الصحيفة فان رئيس الاركان في ذلك الوقت شاؤول موفاز حاول اغرائه ووعده بترقيته الى رتبة جنرال ، فما كان منه الا ان استقال ، وكتب رسالة شخصية لموفاز ، قال فيها "أنا لا أحترمكم، فأنتم في نظري مثابة خلل شديد وكارثة وطنية. أنا أرغب في التسرح".

عسكرة السياسة والمجتمع

تأثير العسكر لا ينتهي بمجرد خلعهم الزي العسكري ، ففد دلت التجربة على انه منذ تاسيس الدولة ، تبوأ مقاعد في الحكومة والبرلمان 40 جنرال (12). في حين تبوأ اكثر من مائة ضابط كبير تتراوح رتبهم بين مقدم وعميد مقاعد في الحكومة والبرلمان . هذا ناهيك على ان معظم الشركات الحكومية ، والمؤسسات المرتبطة بها وبالوكالة اليهودية يقودها جنرالات متقاعدين . واخيرا وصل كبار الضباط المتقاعدين الى سلك التعليم ، حيث اخذت وزارة التعليم تستخدم وزارة المعارف ضباط تتراوح رتبهم بين مقدم وعميد كمدراء مدارس ومدرسين.

دعوات " لانقاذ " اسرائيل من جيشها

الذي يرصد ما يشهد به الساسة والصحافيون وحتى بعض قادة الجيش والمخابرات المتقاعدين والحاليين ، يفاجأ بحجم الدعوات الى للتخلص من تأثير الجيش على تصميم سياسات الدولة . فالصحافي بن كاسبيت يقول " السلطة التنفيذية الحقيقية في اسرائيل لا تمثلها الحكومة المنتخبة ، وانما الجيش (14) . وحتى افرايم هليفي ، الرئيس السابق لجهاز الموساد فيحذر من دور الاستخبارات " الزائد " في تحديد السياسات (15) . اما القائد الحالي لشعبة التخطيط في الجيش الجنرال اسحاق هارئيل ، فقد اطلق صرخة غير مسبوقة عندما دعا الى " توقف الجيش عن تصميم الدولة " (16) . اما عوفر شيلح ، كبير معلقي " يديعوت ا حرنوت " ، فيذهب بعيدا في دعوته لمواجهة تأثير الجيش ، فيقول " ليس هناك أسوأ من اختيار الجي ش لإدارة الأزمات العنيفة هذا الأمر يشبه تعيين المصاب بهوس السرقة لإدارة شبكة متاجر أو تعيين مختلس لإدارة الصندوق المالي للسجن. لأن الأزمات العنيفة تعتبر جوهر قوة الجيش، والجيش، كغيره من التنظيمات القوية، يطمح إلى تضخيم قوته وموارده إلى أقصى حد ".

خلاصة

وفق المعطيات انفة الذكر ، التي تكشف حجم التأثير الطاغي للجيش على صياغة القرارات في الدولة ، فانه يتوجب التريث قبل الحكم على مدى قدرة شارون على تنفيذ خطة اخلاء المستوطنات في غزة ، في ظل تململ الجيش ازاء الخطة ...... في هذه الدولة التي يملكها جيش.