كشفت صحيفة «معاريف» ما تعرفه عن موقف جاك شيراك من حرب تموز الإسرائيلية على لبنان. لم يكذّبها أحد ذو وزن وصدقية. هذا يؤكد ان ما كشفته كان الحقيقة، حقيقة ترتقي أو الأصح تنحدر إلى مستوى الفضيحة.
الفضيحة أساسها رسالة. المرسل جاك شيراك. المرسل إليه إسرائيل. الموضوع عرض فرنسي يقضي بأن يقوم جيش إسرائيل باجتياح سوريا وإسقاط النظام فيها مقابل دعم فرنسي كامل وغير محدود. الدافع كراهية شيراك لبشار الأسد وتحميله مسؤولية اغتيال رفيق الحريري. توقيت تسريب الرسالة له ارتباط بتحقيقات لجنة «فينوغراد» الإسرائيلية في صدد سوء أداء الحكومة والجيش خلال الحرب، وبتحقيقات القضاء الفرنسي في تهم الفساد الموجّهة لشيراك.

في رواية «معاريف» لملابسات الرسالة الفرنسية والعرض «غير المسبوق» الذي تضمنته، تتبدّى شخصية شيراك مزيجاً عجيباً من عواطف مسيّسة وسياسات مشخصنة. ذلك أن ثمة مراسلاً إسرائيلياً مختصاً بالشؤون العسكرية أشار إلى أن لسلوك شيراك دافعاً يتعدى الكراهية إلى المصلحة السياسية. فاغتيال الحريري «أضعف عملية ترميم لبنان الذي تراه فرنسا البلد الوحيد في المنطقة الذي يمكنها ادعاء النفوذ فيه، وترك لدى الرئيس الفرنسي ضغينة كبيرة على الرئيس السوري تستدعي الثأر».

الثأر؟ نعم الثأر. انه ليس ثأراً تقليدياً بين بني شيراك وبني الأسد بل ثأر مركّب تمتطي فيه المصلحة السياسية صهوة العاطفة الشخصية وتصول في المركاض إلى آخره. إذّاك تتكشف حقائق شتى، لعل أكثرها مدعاة للدهشة ان الدنيا والآخرة في سيرة الزعماء هي في الحياة، لا بعد الممات. جنّتهم وجحيمهم هنا، في الأرض. فيها المكافأة وعليها المحاسبة. يسطعون في انتصاراتهم كأنهم أنصاف آلهة، ثم ينطفئون في انكساراتهم كمصابيح قديمة على جنبات زقاق ضيق حطمها متظاهرون غاضبون. وإذا كان الانتصار يقاس بطول القامة السياسية للزعيم ووزنها المعنوي فإن الانكسار له المعيار نفسه. لذا حكمُ الناس الصائب والقاسي: غلطة الشاطر بألف.

إلى ذلك، تكشف رواية «معاريف» حقائق أخرى في صلب حرب تموز العدوانية وعلى هامشها.

أولى الحقائق ان شيراك، في رواية «معاريف»، كان مخاتلاً ومنافقاً: «ندد في البدء بحزب الله لاختطافه الجنديين، لكنه هاجم إسرائيل في الوقت نفسه مدّعياً ان عمليات الجيش الإسرائيلي عديمة التوازن تماماً لدرجة يمكن التساؤل عمّا إذا كان الحديث يدور على رغبة أو إرادة ما لتدمير لبنان». الآن يتضح انه، بالتوازي مع تلك التصريحات، «كان شيراك يدير مراسلات مع تل أبيب حول تغيير وجهة المعركة: بدل الهجوم الواسع على لبنان، الانتقال إلى الهجوم على سوريا». في توصيف هذا السلوك والفعلة المرتجاة منه، تنقل «معاريف» عن مصدر سياسي إسرائيلي كبير قوله «إن الفرنسيين (...) أرادوا ان يقوم الجيش الإسرائيلي بدلاً منهم بالعمل القذر ضد سوريا». إنه، إذاً، عمل قذر. هذه هي الحقيقة، وهي برسم اللبنانيين من حَمَلَة أوسمة «جوقة الشرف» التي قلّدهم إياها شيراك أخيراً مؤكداً انها «للإشادة بدور (فلان) ونضاله إلى جانب أكثرية قوى 14 آذار وحكومة السنيورة من أجل استقلال تام للبنان»... استقلال ربما عن سوريا وحدها وضدها!

ثانية الحقائق حجة ساقها شيراك لتفادي قصف إسرائيل لبيروت. فقد نسبت إليه «معاريف» قوله إنه كان ينبغي ان تحصر إسرائيل نشاطها بضرب أهداف حزب الله فقط وتقليص ضرب بيروت نفسها «حيث الكثير من السكان يحملون جنسية فرنسية». سيشكر له حَمَلَة الجنسية الفرنسية من لبنانيين مزدوجي الهوية (والولاء؟) وفرنسيين أصيلين، إنسانيته اللافتة. غير ان غيرهم ممن لا يحملها أو يحملها ولا يسكن بيروت، سيتساءل عن سبب عدم شمله برعايته الرئاسية التي يحرص، كما يبدو، على ان تراعي التمييز العنصري والاجتماعي. مع العلم بأن إسرائيل تجاهلت رغبته الإنسانية تلك بمساواتها الكاملـة في القصف والفتك والتدمير بين حَمَلَة الجنسيات جميعاً، فرنسية كانت أو غير فرنسية، بما في ذلك حَمَلَة الجنسية الأميركية التي تباهى بها أصحابها زمنَ الحرب على غير طائل.

ثالثة الحقائق ان إسرائيل علّلت عدم استجابتها رغبة شيراك بـِ«أن الحرب مع سوريا لم تكن في جدول الأعمال»، في حين ان اندحار إسرائيل أمام مقاومة حزب الله أثبت ان إسرائيل عاجزة عن محاربة المقاومة اللبنانية وسوريا في آن معاً. لو فعلت لكانت هزيمتها أوسع مدى وأعلى دويّاً.

رابعة الحقائق ان فرنسا لم تكن متفرّدة في دعوتها إسرائيل الى مهاجمة سوريا بدلاً من لبنان أو بالإضافة إليه، ذلك ان أميركا طلبت الأمر نفسه. فقد عبّرت «معاريف» عن هذه الحقيقة بقولها «إن الولايات المتحدة أيضاً، بحسب كل التقديرات، ما كانت لتشكو أكثر مما ينبغي لو أننا (أي إسرائيل) قررنا اجتياح سوريا في الأيام الأولى للحرب». الواقع ان صحيفة «يديعوت أحرونوت» كانت أكدت في 18/12/2006 ان واشنطن «توقّعت وتمنّت واعتقدت» انه كان ينبغي لإسرائيل مهاجمة سوريا خلال حربها على لبنان الصيف الماضي، «وأن ثمة غضباً في أوساط الإدارة لعدم إقدام إسرائيل على فعل ذلك».

خامسة الحقائق ان إسرائيل أثبتت، من خلال حربها العدوانية الأخيرة على لبنان، انها في ما يخص أمنها القومي تتصرف كشريك للولايات المتحدة لا كمجرد أداة، وان ما يهمّها هو مصالحها بالدرجة الأولى، فلا تتوانى عن رفض طلبات واشنطن التي لا تناسبها، فما بالك بطلبات شيراك!
ما الدرس الذي تستخلصه قوى 14 آذار من رسالة شيراك البائسة إلى إسرائيل والحقائق التي كشفتها «معاريف» في سياق الحملة الناشطة في الكيان الصهيوني كما في فرنسا ضد فساد أولمرت وشيراك؟

لعل الدرس الأول والأبلغ أنه لا وزن ولا احترام في حسابات إسرائيل وغير إسرائيل إلا للذي يستطيع ان يضرّ وأن ينفع، كالمقاومة مثلاً التي لقّنت العدو درساً ما زال يعاني تداعياته حتى الآن. أما الذي لا يحسن إلاّ دور الأداة أو دور «جوقة الشرف» والإنشاد التي لا تتقن العزف والغناء إلّا في احتفالات الأسياد فإن نصيبه من مغانم المشهد الذي يدور من حوله لا يتعدى الفوز بوسامٍ صغير يُعَلّق له على الصدر... ومعه تُعَلّق آمال شعبه بخروج مشرّف من محنة دامية ومتمادية.