‏الرأي العام / صبحي غندور

أكثر ما يميّز إدارة بوش في المرحلة الراهنة هو اعتمادها سياسة «الاضطرار» لا «الاختيار». وقد كانت الانتخابات الأميركية «النصفية» الأخيرة التي جرت في نوفمبر الماضي، هي المنعطف المهم الذي أجبر إدارة بوش على إعادة النظر في الأساليب والأشخاص، وببعض الغايات أحياناً، عما كان سائداً في السنوات الست الماضية من حكم هذه الإدارة.
والعالم يذكر كيف أن الرئيس الأميركي استمر يؤكد، حتى الساعات القليلة التي فصلت عن انتخابات نوفمبر، على تمسكه بوزير دفاعه دونالد رامسفيلد، وبالنهج الذي تسير عليه الإدارة في العراق وغيره من البلدان. لكن الرسالة القوية التي بعث بها الناخبون للبيت الأبيض كانت أكبر من أن يتم تجاهلها، وبخاصة لدى الحزب الجمهوري الذي خسر هيمنته على مجلسي النواب والشيوخ بسبب سياسة هذه الإدارة في العراق وفي العالم ككل.
وهكذا بدأت بوادر التداعيات في هذه الإدارة من خلال استقالة (أو إقالة) رامسفيلد، ثم السفير لدى الأمم المتحدة جون بولتون، وبالتالي إعادة إدارة شؤون السياسة الخارجية الأميركية إلى وزارة الخارجية بعد تأميم دورها من قبل مكتب نائب الرئيس الأميركي تشيني ووزير الدفاع السابق رامسفيلد.
وكان النجاح الأول لوزارة الخارجية الأميركية بعد هذه المتغيرات، هو إبرام الاتفاق مع كوريا الشمالية رغم اعتراض مجموعة «المحافظين الجدد» في الإدارة.
أيضاً، ظهرت التحوّلات الجديدة في السياسة الأميركية من خلال الطريقة التي تعاملت بها الوزيرة كوندوليزا رايس مع «اتفاق مكة» مقارنة مع أصوات خرجت من الإدارة ترفض الاتفاق فور إعلانه.
لكن التحوّل الأبرز كان في مسألة الموقف من إيران وسورية، إذ جرت الموافقة الأميركية على المؤتمر الإقليمي الدولي في بغداد بمشاركة أميركية وإيرانية وسورية. صحيح أن نبتة «مؤتمر بغداد» مازالت طرية ولم تثمر بعد، لكنها تعبر عن مناخ إيجابي وأرض خصبة الآن لمزيد من المفاوضات والمؤتمرات اللاحقة. وإذا كان من الأفضل عدم تضخيم التوقعات بشأن نتائج مؤتمر بغداد، فإن ذلك لا يقلل من أهمية النتائج السياسية الرمزية للمؤتمر ونضوج المناخات الإقليمية التي شجعت على حصوله، وأبرزها اللقاءات السعودية -الإيرانية المتكررة.
وترتبط النتائج العملية لمؤتمر بغداد حتماً بأمور عدة لم تحصل بعد، لكن هذه النتائج لن تظهر دفعة واحدة ولن تكون خاصة فقط بالمسألة العراقية.
بل يمكن القول إن النتائج المتوقّعة من مؤتمر بغداد ستكون في تسلسل معاكس تماماً لما أعلنته الإدارة الأميركية.
فواشنطن اعتبرت أن الأسابيع المقبلة ستكون فترة اختبار لكل من طهران ودمشق في كيفية تعاملهما مع الشأن العراقي، وأن ذلك سوف يحدد مصير المفاوضات الأميركية المستقبلية مع كل منهما. لكن واقع الحال أن التعامل مع أزمات أخرى في المنطقة سيكون هو المعيار لكيفيّة مستقبل الأوضاع في العراق. أي بوضوحٍ أكثر: ستكون الأسابيع المقبلة هي فترة حسم للأزمتين اللبنانية والفلسطينية، وسيكون التفاهم الأقليمي الدولي بشأنهما هو المدخل لتفاهم أوسع يشمل العراق ومصير الملف النووي الإيراني. فالعراق هو المحور الأساس في السياسة الأميركية بمنطقة الشرق الأوسط الآن، وواشنطن تريد من قوى إقليمية ودولية أن تساعدها في الخروج من هذا المأزق الأمني والسياسي الذي يلف سياسة الإدارة الأميركية داخلياً وخارجياً. وسيكون على واشنطن أن تقدّم حلولاً لأزمات أخرى قبل أن يساعدها «الآخرون» على المستويين الإقليمي والدولي في حلّ أزمتها بالعراق.
هذا الأمر أدركه بوضوح تقرير بيكر هاملتون الذي دعا إلى معالجة أزمات إقليمية في الشرق الأوسط مع معالجة الأوضاع في العراق. وها هي إدارة بوش تنتقل من حالة الاستخفاف بتوصيات بيكر هاملتون إلى التعامل معها جرعةً جرعة وكأنها دواء مرّ تضطرّ لتناوله لمعالجة أمراضها المزمنة!
لقد سقطت مراهنات عدة كانت لدى إدارة بوش منذ حربها على العراق قبل أربعة أعوام تقريباً. فالعالم مازال يذكر تصريحات مايسترو الحرب دونالد رامسفيلد بأن الحرب ستكون لأسابيع وربما لأشهر محدودة، وأن القوات الأميركية قد تعود لأميركا بعد ستة أشهر! فالرهان كان على إخضاع العراق وتهديم أركانه ومؤسساته ثم إعادة بنائه وفق «نموذج أميركي» جاهز لكي يعمم على دول أخرى في المنطقة.
جرى احتلال العراق بسهولة هذا صحيح وحصل التهديم لمؤسسات الدولة العراقية ولوحدة المجتمع العراقي، وهذا صحيح أيضاً، لكن تهدم مع ذلك كله «النموذج» الذي دعت إليه إدارة بوش، وسقط معه مشروع «المحافظين الجدد» وأحلامهم عن «شرق أوسطي جديد». وسقوط «المشروع» هو ليس فقط حصيلة التداعيات الجارية في العراق، بل في عموم المنطقة أيضاً، وبعدم قدرة واشنطن على تسيير اتجاهات الأزمات في فلسطين ولبنان، ومع طهران ودمشق، بالمنحى الذي أرادته واشنطن وعملت من أجله. فالحرب الإسرائيلية على لبنان في الصيف الماضي أدّت إلى نتائج عكسية لما كانت تراهن عليه واشنطن من إضعاف للقوى الرافضة لسياستها في المنطقة.
وقد سقط كذلك رهان الإدارة الأميركية على صراعات فلسطينية داخلية بعد فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية، كما سقط رهانها بعد الحصار على حكومة «حماس» حصيلة «اتفاق مكة» الذي أوجد صيغة حكومة وحدة وطنية بدلاً من حرب أهلية فلسطينية.
ولم تنجح أيضاً مراهنة إدارة بوش على عزل إيران إقليمياً ودولياً، بل على العكس حصلت ولا تزال لقاءات سعودية - إيرانية أسقطت نظرية واشنطن عن معسكرات «الاعتدال» و«التطرّف» في المنطقة، وعطّلت أيضاً محاولات زرع الفتنة الطائفية والمذهبية في العالم الإسلامي.
وكم هو مؤسف أن تبني دولة كبرى، بل القطب الأوحد الآن، سياستها على رهانات فاشلة خاسرة، ثم تتراجع بعد كل فشل لتعود وتقبل بما كانت ترفضه! وكأن الإدارة الأميركية تريد استهلاك كل خيار أمام أجندتها قبل أن تصل إلى مرحلة التخلي عن هذه الأجندة المرفوضة الآن أميركياً ودولياً.
والسياسة هذه، التي تقوم على نهج «الاضطرار»، تعني أن المرحلة المقبلة سوف تتوقف على حجم التأزّم في سياسة الإدارة الأميركية، لا بناء على منظور استراتيجي مسبق يستهدف تحقيق المصالح الأميركية، ويضع في الحسبان قوى دولية وشعوباً أخرى لها أيضاً حق العيش في حرية وعدل وسلام