الحياة / حازم صاغيّة

إذا كان التصويت للمعنى يثير حماسة المقترعين، فالتصويت ضدّ التفاهة يثير لديهم حماستين. هكذا نفهم، جزئيّاً، الشعبيّة التي تُرجمت صعوداً لمرشّح «الوسط المتطرّف» في فرنسا، فرانسوا بايرو. فهي احتجاج على سخافة اليسار الانتهازيّة إذ يتمثّل برويّال، وعلى جلافة اليمين الأمنيّة وقد تمثّل بساركوزي. ولنتذكّر أن الاثنين، كلاً من موقعه، يحاولان التشبّه بتوني بلير ومدى تعويله على «الصورة» و «الجِدّة» بديلاً من المضمون والمعنى.

والحال ان المعلّقين، الفرنسيّين منهم وغير الفرنسيّين، أسهبوا في تناول التغيّر الذي أصاب الاحتجاج: فبعدما كان أقصى اليمين وأقصى اليسار ملجأ المحتجّين، بات الملجأ الوسط. وهي ظاهرة تقف وراءها أزمة الايديولوجيا عموماً، لا سيّما منها أشكالها الأشدّ حدّيّة. وعلى هذا التطوّر تشهد أرقام ومعطيات. فالحزب الشيوعيّ، وكان من دعائم الحياة السياسيّة بين نهاية الحرب الثانية والثمانينات، تُقدّر شعبيّته اليوم بـ2 في المئة فحسب. أما اليسار الراديكاليّ ومعه الخضر، ممن أحرزوا في انتخابات 2002 الرئاسيّة حوالي 26 في المئة توزّعوا على سبعة مرشّحين، فلا تتجاوز الآن قوّتهم الـ10 في المئة، لا يغيّر في هذا تفاؤلهم البسيط بالسيطرة على المستقبل الفرنسيّ إثر استفتاء 2005 الذي قال «لا» لأوروبا. في المقابل، فإن جان ماري لوبن الذي حصد في الدورة الأولى لانتخابات 2002 نسبة 17 في المئة، طارداً الاشتراكيّ ليونيل جوسبان من الدورة الثانية، فلا يُقدّر له أن ينال، هذه المرّة، أكثر من 13 في المئة.

وهذه جميعاً كانت لتشكّل حصيلة إيجابيّة لولا بضع ظاهرات أخرى مقلقة على فرنسا، ظاهراتٍ تتبدّى في الوهلة الثانية:

ذاك أن الثقافيّ ينكمش أيضاً فلا يقتصر الضمور على الايديولوجيّ. يكفي التذكير بأن البلد الذي ولد فيه «المثقّف العام»، وتحتلّ فيه المساجلة السياسيّة ما لا تحتلّه في أيّ بلد متقدّم آخر، كما لا تزال دولته تدعم الثقافة والفنون بتقديم 2.9 بليون دولار سنويّاً، لا يُسمع فيه، إلاّ لماماً، صوت المثقّفين. فالفتور سيّدهم، اليوم، فيما التمنّع عن مخاطبتهم سيّد المرشّحين الشعبويّين ساركوزي ورويال.

ثم إن الاعتراض بفرانسوا بايرو قد لا يقلّ تفاهةً عن تفاهة المرشّحين الرئيسين. فبايرو، حسب ما بات شائعاً، يمثّل العاديّة التي لا تلفت نظراً ولا تثير انتباه مُنتبه: ضعيف الكاريزما، كاثوليكيّ ممارس، مزارع غنيّ يربّي الخيل في جنوب فرنسا الغربيّ، إلاّ أنه، على عكس سائد القطاع الزراعيّ، مؤيّد لأوروبا. ودوره السياسيّ، البالغ العاديّة هو الآخر، لا يوقظ نائماً من نومه: لقد تدرّج من النيابة الى الوزارة فرئاسة «الاتّحاد من أجل الديموقراطيّة الفرنسيّة». وهذا الأخير الذي حكم سنوات قليلة في عهد فاليري جيسكار ديستان، تحوّل شريكاً ائتلافيّاً صغيراً للديغوليّين، قبل أن يذوب حزباً هزيلاً يهجره بعض وجوهه الى الحزب الديغوليّ. فـ» أهميّة» بايرو الوحيدة، بالتالي، أنه رفض وصاية شيراك على معسكر اليمين العريض الذي ينتسب اليه. وقد ذهب «بعيداً» في تمرّده بحيث انضمّ الى الاشتراكيّين، ممن مقتهم دائماً، في حجب الثقة عن حكومة دومينيك دو فيلبان!

والملاحظة الأخيرة هذه تشي بالظاهرة الثالثة المقلقة. ذاك أن النظر الى بايرو بوصفه «معتدلاً» لا يلغي يمينيّته الراسخة، لا بل إن التصنيف هذا ينمّ عن تموضع الثقل السياسيّ في جبهة اليمين، ولو انقسمت بين «مجدّد» ومحافظ. فأزمة الايديولوجيا لا تلغي أن ما كان محرّماً في مواضيع الهجرة، لا يقوله إلاّ لوبن، صار في وسع ساركوزي، من داخل المتن العريض، أن يقوله. ويُلاحظ، في المقابل، طغيان «الشخصيّ»، أتجسّد في تناول الفوارق بين شيراك وساركوزي، كما بين رويال وهولاند وسائر الأقطاب الاشتراكيّين.

وهكذا فالرغبة الجديدة ليس مصدرها رفض اليمين، بل منشؤها توجّه يمينيّ مشوّش يعبّر عن خوف فرنسا مما يستجدّ. و «الجِدّة»، أمثّلها ساركوزي أو مثّلتها رويال، وبغضّ النظر عن سطحيّتها أو عدوانيّتها، تقلق أصحاب تلك الرغبة المحافظة قبل أن تقلقهم التفاهة.

فذاك البلد العظيم لم يتكيّف بعد مع الأسئلة التي شرعت تُطرح عليه منذ الولاية الميترانيّة: من العولمة الى صعود أوروبا ووحدة ألمانيا، ودائماً دور أميركا والعلاقة بها، ومن دولة الرفاه الى الصلة بالماضي الاستعماريّ الذي لا يناقشه أيّ من البلدان بوصفه حاضراً كما يناقشه الفرنسيّون. أما بايرو فيخاطب ذاك الميل الى البقاء حيث نحن، إذ ليس في الإمكان أحسن مما كان.

مثل هذا الوعي التقليديّ لا يلزمه إلاّ أزمة اقتصاديّة شاملة حتى يندلع الحريق. هذا بعض ما يقوله تاريخ أوروبا في القرن الماضي.