يقول المثل العامي : " اقعد أعوج ، واحكي جالس " ، وعلى اعتبار أن كل ما عندنا يتناقض مع الذي عند أهل الغرب " المتقدم " ، نرى أن الآنسة رايس ( وزيرة الخارجية الأمريكية ) ، تنتصب بشكل مستقيم ( ما شاء الله) ، وتتحدث بطريقة عوجاء ، متعرجة ، وبما يوحي وكأن العرب هم المحتلين لأراضي الغير ، أو هم من بادر بالعدوان ، أو كأنهم ليسوا المفعول به الدائم والأبدي وأن الفاعل اللعين هو أداة الغرب الصهيونية ، التي تمثل كل أطرافه ودون استثناء ، وهكذا وبحديث أعوج مرفوض ، تطالب العزيزة على قلب السنيورة ( على وزن العزيز هنري ) ، العرب بأن يبادروا إلى مد يد المصالحة للعدو الصهيوني وأن لا ينتظروا حتى تحل القضية الفلسطينية بشكل نهائي ...! وأن يعطوا للصهاينة الثقة بأنهم مقبولين في المنطقة و ... عليهم الأمان ..! هكذا وبكل بساطة .

كم هي متواضعة الآنسة رايس ، وكم هي قادرة وبكلمات بسيطة على تقديم حلول لأعتى المشاكل وأكثرها تعقيداً ..! ما على الضحية إلا أن يعتذر لقاتله ومضطهده ..! أتحاول الآنسة التمهيد لمطالبة الشعب العراقي وقبله الأفغاني بالاعتذار لجيش بلادها على ما لحق به من خسائر، الأصح على ما ألحقه من دمار وخسائر بالبلدين المذكورين ، فعلاً منطق أعوج .!.

كيف يخطر ببال الآنسة رايس أن كل الأمور يمكن تأجيلها ، حتى الجلاء عن الأرض المحتلة ، ولو استمر الصهاينة بالقتل والتدمير والهدم، وإقامة جدران العزل ، وسرقة المياه والآثار وكل ما يمكن أن تطاله أيديهم ، على أن المصالحة هي الأهم ، ولم تطالب الصهاينة بتقديم بادرة حسن نية كأن يتوقفوا عن بناء الجدار ، أو عدم هدم بيوت الفلسطينيين وتوسيع المستوطنات ، أو وقف عمليات القتل والتصفية ، أو الانسحاب من بعض الأرض المحتلة ، أو الإعلان عن القبول بقواعد القانون الدولي وما صدر من قرارات عن مجلس الأمر الأمريكي ، أو ..... أو ، الكثير من المبادرات التي يمكن أن تعطي للشعوب وليس للحكام العرب دليلاً واحداً على نية العدو الغاصب بالتراجع عن بعض عدوانه ، وهو أمر شبه مستحيل .

تساءل كثير من الزملاء الكتاب عن سر الحرص الأمريكي – الصهيوني على إحياء المبادرة العربية المطروحة منذ سنوات خمس ..؟ البعض قال أن احتياجات السياسة الداخلية الأمريكية ، ومثلها الصهيونية هي ما أملى هذه الحاجة ، والبعض الآخر يقول أن الموقف الدولي على ساحة المشرق وما يدور همساً عن خطط أمريكية لضرب إيران هو سبب الحراك ، وعودة إلى ظروف ومقدمات حرب الخليج الثانية يمكن المقارنة والتأكيد إلى حد ما بأن الحاجة الأمريكية لتحييد مجموعة الدول العربية ، أو كسب ودها يفرض تقديم ملهاة جديدة على غرار ملهاة مدريد التي كان شامير مزمعاً أن يجعل منها مسلسلاً من المفاوضات يمتد لسنين عديدة ، أكثر من عدد حلقات مسلسل مكسيكي ، المخيف أن العرب يبتلعون الطعم بسهولة ، هل يفعلونها هذه المرة ..؟ وما مغزى أن تقدم الآنسة رايس نعوة ذاتية لجولتها في المنطقة ..؟.

لا يقتصر الحديث الأعوج على الآنسة رايس ، فالمستر بلير يتحدث بنفس الطريقة ، وما المشكلة ، المستر بلير أيضاً من أهل الغرب ، ولا يحب أن يطبق المثل العربي ، هو يتحدث موجهاً كلامه للقيادة الإيرانية وبما يوحي وكأن الإيرانيون اختطفوا جنوده من المياه الإقليمية البريطانية ، أو هكذا يتهيأ له ، وتشاركه وزيرة خارجيته القول أن الجنود كانوا يمدون يد العون للحكومة العراقية في مكافحة التهريب ..! أي تهريب ، تهريب ماذا ..؟ سلاح ، مخدرات ..! وهل أصبح من المهام الجديدة للقوات البريطانية مكافحة التهريب في مناطق العالم ، ولماذا لا ينتدب المستر بلير قواته لمكافحة تهريب المخدرات بين أرجاء الجنوب الأمريكي ، أو الشرق الآسيوي ..؟. ثم إذا كانت قواته تقدم المساعدة للعراق والعراقيين ، فلماذا يهاجم العراقيون قواته ، ولماذا تقتل قواته من شعب العراق دون حساب ..؟. ليعترف المستر المأزوم بأن قواته تحتل منطقة جنوب العراق وتقوم بالتجسس على الجارة الإيرانية لحساب الشريك الأمريكي الذي يحاول جاهداً وبكل الطرق الالتفاف على هزيمته الحتمية في المنطقة ، أو تحويل اتجاه هذه الهزيمة إلى معركة جديدة تصرف الأنظار عما يكابده ، ثم ليحقق نصراً يعتقد مخطئاً أنه سهل المنال .
المستر بلير لا يستطيع إدراك أن زمن الإمبراطورية البريطانية ، والأوامر الصارمة المعتاد صدورها عن مقام رئيس الوزراء أصبح من الماضي البعيد ، وأن عليه اليوم أن يعي ضرورة المبادرة إلى تقديم الاعتذار للشعب الإيراني ، أملاً في فك أسر الجنود بطريقة سلمية وعلى وعد انسحاب قواته التام من المنطقة إلى مواقعها الطبيعية ، أو أن يتجه مع قليل من جنون العظمة إلى محاولة فك أسرهم بالقوة كما فعل أسلاف بوش قبل ربع قرن ، وقد يكون فشله أقل مرارة ، وخسارته أقل وقعاً حسب حجمه .

رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه ، فوقف عنده ، حفظ كرامته ، واحتفظ بتقدير الآخرين له ، .. الغاية من المثل أن الآنسة رايس كان عليها أن تدرك أن سلفها الآنسة أولبرايت كانت أكثر حكمة ، وأكثر صلابة ، وأقوى شخصية ، مع ذلك لم تصل في ضحالة تفكيرها ، أو غطرستها حد مطالبة العرب ، كل العرب ، بمد يد المصالحة لعدو أهدر كرامتهم ، وأذل قواتهم ، واحتل أرضهم ، واغتصب حقوقهم ، وكان عليها من باب أولى ( طبقاً للسلوك الديمقراطي الذي تحرص عليه إدارتها ) أن تسبر غور مشاعر الشعوب العربية ، لا الحكام ، ليتأكد لها أن موقع حديثها لا يكون إلا عبر باب السخرية ، وهي إن أقنعت بعض الحكام فالنتائج لن تتغير أبداً ، ما عليها إلا أن تنظر داخل الشارعين المصري والأردني لتعلم الحقيقة . ثم أن لا تبيع سمكاً للعرب وهو لم يزل في المياه الأمريكية .