يخطئ المرء إذا ادعى أن الأوضاع القائمة في لبنان حالياً طبيعية، ويخطئ أكثر إذا توهم أنها أوضاع الديمومة.

إنها أوضاع مؤقتة ناشئة ليس فقط من صراع داخلي بحت بل كذلك من تصادم مجموعة من الاهتمامات العربية والإقليمية والدولية .

حتى الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على لبنان في العام الماضي( تموزـ آب 2006) كانت من مفاعيل الصراع الدائر في الساحة اللبنانية بين الولايات المتحدة ممثلة بـ " المحافظين الجدد " وقوى الممانعة العربية والإقليمية الرافضة للهيمنة التي سعت إليها إدارة الرئيس جورج بوش الابن.

والولايات المتحدة التي منيت بهزيمة تاريخية في العراق حاولت وتحاول استخدام لبنان للتغطية على هذه الهزيمة. والشعب اللبناني يجد نفسه وسط تصادمات وصراعات إقليمية ودولية قسمت صفوفه وأثارت الاختلاف بين قواه السياسية الرئيسية.

ألا يلفت الأنظار أن الولايات المتحدة المهزومة في العراق تفتش عن (نصر ما) في المنطقة، وان مشروع الفتنة الشيعية ـ السنية في العراق ( بل واللعب بالموضوع السني ـ الشيعي) ومحاولات التهدئة في فلسطين و إراحة إسرائيل بعد هزيمتها في لبنان وحشد القوات الأميركية في المنطقة مع حاملات الطائرات تندرج كلها في مخطط للإدارة الأميركية للوصول إلى (النصر) المنشود عن طريق ضرب إيران تحت ستار منع هذا البلد من إنتاج أسلحة نووية؟

وألا تُذكّر حملة التهويش والمقاطعة والعقوبات ضد إيران بما أقدمت عليه الإدارة الأميركية لضرب واحتلال العراق ؟

ألم تكن أُكذوبة أسلحة الدمار الشامل المركب الذي اختارته الإدارة الأميركية لبدء غزو العراق؟

أين سيكون موقع لبنان في ظل تحركات إدارة المحافظين الجدد في واشنطن ؟

الخيارات المتوفرة للبنانيين وللطبقة السياسية اللبنانية وأحزابها السياسية وطوائفها ومذاهبها كثيرة ولكن الاختيار الأهم، والذي يحكم الخيارات المتفرعة في المجالات المختلفة، هو : أين يجب أن يصطف لبنان في خضم الصراع الكبير الدائر في المنطقة والمتفرع عن الصراعات الدائرة في عالم القطب الواحد الساعي إلى وضع يده على العالم وثرواته ومقدراته بعيداً عن الأمم المتحدة ومبادئ ميثاقها وعن شرعة حقوق الإنسان أيضاً؟

في منطقتنا جبهتان : جبهة القطب الواحد ونعني به الولايات المتحدة المتجسدة حتى الآن بأشد الاستعماريين الرجعيين المتطرفين المعروفين تحت اسم ( المحافظون الجدد ). وفي عباءة هذه الجبهة : إسرائيل وحكامها العنصريون المتطرفون العدوانيون.

وفي الجبهة الأخرى تقف الدول العربية المستقلة وشعوبها الرافضة للهيمنة الاستعمارية والتسلط الإسرائيلي.

والمواقف في هذه الجبهة متفاوته في المستوى الرسمي وموحدة على المستوى الشعبي. وجوهر هذه المواقف هو الدفاع عن الحرية والاستقلال الوطني وسيادة الدول العربية المنتشرة من جبل طارق الى اليمن والمحيط الهندي .

بعض الدول العربية البعيدة عن خط النار مع إسرائيل , التي لم تفقد أرضاً في مراحل التوسع الإسرائيلي في المنطقة, تناور وتساير وتتنازل حيناً وتتشدد حيناً آخر.

لبنان ليس من هذه الدول. هو في قلب النار التي أشعلتها الولايات المتحدة بيد صنيعتها وربيبتها إسرائيل.

واصطفاف لبنان في جبهة الولايات المتحدة يقوده إلى الوقوف وراء إسرائيل, ومع إسرائيل, ضد العرب ويجعله، شاء شعبه أم أبى، عنصراً في الآلة السياسية والعسكرية الأميركية العاملة لاحتواء البلاد العربية وموقعها الجغرافي وثرواتها من النفط والغاز.

وأية محاولة لتقديم الولايات بصورة الدولة العادلة النزيهة الساعية إلى نشر الديمقراطية والحرية والسلام في كل أنحاء العالم ستفشل لان تاريخ وأعمال وحروب الولايات المتحدة العدوانية وجرائم قواتها لا تساعد الراكضين للانضمام إلى الاتباع والعملاء .

ومن يشك في ذلك عليه أن يعود إلى أنباء زيارة الرئيس جورج بوش إلى بعض دول أميركا اللاتينية ( جمهوريات الموز ) وما لاقاه هناك من استقبال يليق بأعداء الشعوب وسارقي ثرواتها ومنظمي الانقلابات ضد الأنظمة الوطنية ومنصّبي العملاء والجلادين حكاماً. والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة.

وإذا كانت الولايات المتحدة التي وضعت يدها على أميركا اللاتينية لمدة زمنية طويلة ولم تحمل إليها الاستقلال والحرية والسيادة والتطور الاقتصادي والمالي والثقافي, فهل تراها ستعامل لبنان معاملة استثنائية ؟؟!!

وهل يعتقد الراكضون وراء الولايات المتحدة أنهم ( شيء استثنائي ) لتعاملهم معاملة استثنائية مناقضة لجوهر وتفاصيل السياسة الأميركية المتبعة في كل أنحاء العالم ؟

وهل يعتقد الذين يستقوون بالولايات المتحدة أن ( على رأسهم ريشة ) كي تتخلى الإدارة الأميركية عن ربيبتها وقاعدتها المتقدمة في الشرق الأوسط ـ إسرائيل, وعن سياستها التوسعية والعدوانية كرمى لعيونهم هم ؟

إن التفكير الواقعي غير المنحاز انحيازاً أعمى لابد أن يقود إلى حقائق لاتبرر أبداً الارتماء في أحضان سياسة الولايات المتحدة.

وسياسة الولايات المتحدة التي نفذها ( المحافظون الجدد بقيادة جورج بوش ) حتى الآن قد جعلت الشعب الأميركي يخرج إلى شوارع المدن الأميركية لاستنكار هذه السياسة والدعوة إلى وقف الحرب العدوانية ضد الدولة العراقية وشعبها.

وقد فاق عدد المتظاهرين الأميركيين أعداد جميع المظاهرات التي قامت في جميع البلاد العربية ضد الحرب الأميركية في العراق.

والناخبون الأميركيون سبقوا المظاهرات لاعلان سقوط السياسة الأميركية العدوانية الحالية ففقد بوش الأكثرية قي مجلسي الكونغرس ( النواب والشيوخ ).

وهل الذين يمشطون ذقونهم للجلوس في أحضان المتطرفين الأميركيين أكثر أهمية من شاه إيران ورئيس الفليبين وغيرهما من العملاء ؟

مهما كانت أهمية لبنان المُتخيلة لدى الولايات المتحدة فإنها لن تتقدم فيها على إسرائيل.

وإذا كان بعض السياسيين الأميركيين قد وصل إلى حد العمل حالياً لفتح أبواب الولايات المتحدة أمام مواطني إسرائيل, بدون جوازات ودون سمات، فإن مجرد الحديث عن ذلك يتّوج الانحياز الأميركي التاريخي إلى إسرائيل ضد العرب ويرسخ حقيقة الترابط العضوي بين سياسة الجانبين في الوقت الحاضر وفي الماضي.

ومهما حاول بعض السياسيين اللبنانيين طلي صورة الولايات المتحدة بالأصباغ والألوان الزاهية فإن تاريخ هذه الدولة لا يسعفهم فهي التي أقامت إسرائيل ومولتها وسلحتها وحرضّتها على الحروب التوسعية في الأراضي العربية ( بما في ذلك لبنان الذي فقد عدداً من قراه ضُمت إلى إسرائيل منذ رسم حدود الهدنة الأولى التي تلت حرب التوسع عام 1948 ) وهي التي غطت جميع الحروب والغزوات الإسرائيلية التوسعية واستخدمت حق النقض في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة منذ العام 1948 لمنع إدانة العدوان وللإبقاء على الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي العربية، انطلاقاً من موقع إسرائيل في مخططات التوسع والسيطرة الأميركية.

إن مصلحة لبنان هي مع العالم العربي الكبير لامع الولايات المتحدة وإسرائيل, لا ولا مع معاداة العرب ـ القريبين أو البعيدين.

ومن هذا التوصيف الواقعي فإن على المرء أن يقول إن العداء لسوريا ليس سياسة وطنية لبنانية.

وما أوجدته الطبيعة والتاريخ والجغرافيا من روابط وثيقة وقوية بين لبنان وسوريا ستظل قائمةً ما قام لبنان وسوريا وما بقي شعباهما في هذه البقعة. ولن تستطيع مؤثرات آنية, محلية أو إقليمية أو دولية, القضاء على المكونات الأساسية للمصالح الوطنية لكل من البلدين.

الحكومات والزعماء والأحزاب يأتون ويذهبون ويبقى الشعبان الشقيقان وهما أدرى بمصالحهما القصيرة والمتوسطة والبعيدة الآجال.

والأخطاء التي ارتكبها بعض السوريين في ظل الوجود السوري في لبنان مدانة في سوريا كما هي مدانة في لبنان وستذهب كما ذهبت القطيعة الاقتصادية التي قامت في يوم من الأيام .

إن المصلحة الوطنية اللبنانية, ومصلحة اللبنانيين , وكل الطوائف اللبنانية، هي في الإطار العربي, في العالم العربي الكبير, لامع الولايات المتحدة وإسرائيل.

والالتحاق بالولايات المتحدة وسياستها المعلنة والمعروفة هو خطوة مغامرة لا تحمل إلى لبنان إلا الخراب والدمار والفتن والفرقة الداخلية وانهيار الدور الذي يقوم به لبنان في محيطه العربي.

والانضواء تحت جنح السياسة الأميركية المندحرة في العالم يضع لبنان في (مواجهة إسرائيل) داخل القفص الأميركي. والرابح هناك هو إسرائيل بالتأكيد، ومشاريع "الشرق الأوسط الكبير" " والشرق الأوسط الجديد " هي مشاريع لاعطاء إسرائيل السيطرة على المنطقة تحت الإشراف الأميركي.

وما تطمح إليه إسرائيل هو الدور الذي يقوم به لبنان في المنطقة. والتنافس تحت أجنحة النسر الأميركي سيكون لمصلحة إسرائيل بالتأكيد. ولن يستطيع أي ( زعيم ) لبناني أو أية طائفة أو مجموعة أثنية لبنانية إزاحة إسرائيل عن موقع الامتياز لدى الولايات المتحدة.

ومن غرائب الأمور أن بعض اللبنانيين الذين جعلوا من مهاجمة سوريا ( كل سوريا ) ديدنهم وهدفهم، وتعاطيهم في هذه الأيام ...كانوا ومازالوا من المتمرسين في فنون الفساد والإفساد والمتاجرة بكل ما هو متيسر ومتاح. وكان لهم دور كبير في إفساد سوريين عملوا في لبنان، ولم يتورعوا حتى عن إفساد سوريين داخل سوريا.

وبعض هذه النماذج انتقل إلى الصف الذي يدعو إلى مقاطعة سوريا وإغلاق الحدود معها بقوات معادية للعرب. ويفاخر بعضهم بإعلان أنباء عن إرسال ( الألمان ) إلى الحدود السورية تمهيداً لنشر قوات أجنبية على هذه الحدود .

ونذّكر الذين لايعرفون بأن هناك اتفاقاً للتعاون بين المخابرات الألمانية (B.N.D) ومركزها في بولاخ والمخابرات الإسرائيلية ( الموساد ) وأن عملاء هذه المخابرات الإسرائيلية الموجودين في ألمانيا كانوا أول من يستجوب اللبنانيين والفلسطينيين في معسكرات استقبال طالبي اللجوء إلى ألمانيا.

في هذه المعسكرات جند الإسرائيليون عملاء كثيرين لهم وأحد هؤلاء تسلل إلى جوار الزعيم الفلسطيني أبو إياد !! ... واكتُشف أمره ونشرت الصحف ذلك في حينه.

وألمانيا، بضغط من الولايات المتحدة، قدمت ما سمي بـ " التعويضات " إلى إسرائيل على شكل مساعدات مالية وأسلحة ومساعدات فنية وخبراء من العلماء المتخصصين في المجالات العسكرية . وقبل وقت قصير قدمت إلى إسرائيل ثلاث غواصات جديدة مؤهلة لحمل أسلحة الدمار الشامل .

ولمصلحة من يطلب بعض اللبنانيين وضع قوات ألمانية على الحدود بين لبنان وسوريا ؟

سوريا ليست عدوة لبنان ولا لبنان عدو لسوريا. وكل ما يطرح على أساس آخر هو هرطقة سياسية ومكابرة متعصبة ضد الجغرافيا والتاريخ والعلم .

قد تكون هناك معطيات وقتية تنبع من عوامل طارئة ومؤقتة ولكنها لا تقوى على تبديل العوامل الدائمة القائمة والمستمرة والتي قهرت كل محاولات فصم العلاقات بين البلدين المتجاورين والمتداخلة مصالح شعبيهما تداخلاً لم تقو كل العوامل السياسية الطارئة والقهرية على إلغائها.

ولبنان لن يصبح ولاية أميركية ولا سويسرا جديدة في أوروبا وكل الأوهام التي تنخر في رؤوس بعض المتعصبين وغير الواقعيين تتبخر مع الواقع ومع الوقائع والحقائق التي طالما أظهرتها التطورات في المنطقة والعالم.

والذين يحلمون بكيانات سياسية جديدة صغيرة ودويلات مذهبية وعنصرية يسبحون ضد التيار المتنقل من قارة إلى أخرى. وكيف يمكن لنظريات الانفصال في (جبل لبنان وساحله) وفي العراق أن تكون خطوة عملية قابلة للحياة في حين أن أوروبا التي مزقتها الحروب طيلة قرون تتجمع في اتحاد أوروبي يضم أكثر من سبعاً وعشرين دولة يعرف تاريخها حروبا ثنائية وعامة ويتكلم مواطنوها لغات كثيرة وتنتمي شعوبها إلى ثقافات وربما ديانات مختلفة؟

وشعوب أميركا اللاتينية جربت الوقوع في شباك الولايات المتحدة واختبرت وسائلها في نشر (الديمقراطية وحقوق الإنسان) ولذلك تنقضّ الآن على التبعية للهيمنة الأميركية وتقيم حكومات منتخبة تقود أنظمة متحررة وتنشر الحرية والديمقراطية وتستخدم ثروات الأوطان لمصلحة شعوبها.

وهاهو العالم كله يجد أن الأوضاع على الباب الخلفي للولايات المتحدة تتحول لغير مصلحة الهيمنة الأميركية.

وهاهي جمهوريات الموز تشكل واقعاً جديداً في العالم الجديد وانهياراً كبيراً للهيمنة الاستعمارية لأميركا الشمالية.

ألم تختبر شعوب هذه البلدان (الحضارة الأميركية) و(حريات وحقوق الإنسان الأميركية الشمالية) والانتخابات الحرة المزعومة بل الانقلابات التي أصبحت مثالاُ وهوية للرسالة التي تحملها احتكارات الولايات المتحدة والقوى الرجعية والعنصرية فيها؟

والعرب مدعوون إلى طرح سؤال ملح على أنفسهم هو: هل من مصلحتنا أن نلقي بأنفسنا في أحضان أعدائنا؟ وهل الاستسلام أمام الإدارة الأميركية الحالية وإسرائيل هو التحقيق الأمثل للحرية و(السيادة) والاستقلال الوطني.