ليس على إيران كبير حرج لجهة استمرار اعتقالها بحارة بريطانيين. فأزمة الغرب معها ليست تنتظر مثل هذا التفصيل. ثم إن الأمر يمكن أن يوفر لإيران فرصة ثمينة لو أنها أحسنت التصرّف بالورقة التي التقطتها من عرض البحر. أما إن لم تحسن التصرف فإنها تكون قد ارتكبت غلطة الشاطر مرّتين.

وإذا صحّ فعلاً أن هؤلاء دخلوا مياهها الاقليمية ـ وهو أمر ليس بالمقدور القطع فيه الآن ـ فإن ايران تلازم مبدأ السيادة الوطنية في ما تقوم به، كما أنها تردّ بالمثل على عدم احترام حصانة بعثتها الدبلوماسية في العراق.

علاوة على ذلك، فإن الحمية القومية مستنهضة تماماً في حدث الاختطاف، مع مفارقة أن هذه الحمية تمرّ من خلال تمثل الدولة النووية الطموح بنهج لادولتي، أي بنهج الجماعات، شأن حماس وحزب الله، لجهة ادارة الصراع، عن طريق اختطاف مجندين، ولو في سياق مختلف نوعياً. لكنه على الأقل البعد الذي تحاول قنوات الاعلام والدعاية الغربية تسليط الضوء عليه، باعتبار أن الدولة المصنفة مارقة هي أولاً وأخيراً دولة قطّاع طرق في اليمّ أو في البر، لا فرق.

وهنا، فإن السياسة الايرانية سترتكب خطأ جسيماً لو أنها أساءت تقدير حجم التعاطف الغربي مع البحارة البريطانيين، ومغبة ذلك. أما المواكبة الاعلامية التي تعمّدت تقديم المحتجزين البريطانيين في صورة الصاغرين التائبين، الممتنين لخاطفيهم، والمستائين من حكومات بلادهم وحروبها، فأقل ما يقال فيها أنها مواكبة قاصرة ومعلّبة، حتى ولو أنّ البحارة عبّروا فعلاً عن قناعات مثل هذه. فليت ايران تعاملت معهم على أساس المبدأ الاسلامي المتوارث، بأن لا ولاية لأسير، وحسناً فعلت لو أنها انتظرت انفكاك أسرهم وعودتهم الى بلادهم كي يفصحوا عن آرائهم المكنونة في الصدور، بدلاً من استعراضهم على النحو الذي جرى، لا سيما مع حالة فاي تورناي ورسالتها التي يمكن ألا يهضمها عاقل.

والموضوع هنا لا يقتصر على سوء تدبير اعلامي. هو يتّصل بأمر أكثر مفصلية في الصراع بين ايران والغرب. ذلك أن سبيل افلات ايران من الضربة التي تحضَّر لها هو أن تنجح في اقناع العالم بأنها، إن في اللين أو في الشدّة، تتعامل مع أخصامها كدولة في مقابل لفيف من الدول، وليس أبداً كحال متأرجحة بين منطق الدولة ـ الأمة الحديثة وبين منطق... الممانعة.

لن يكون ذلك ممكناً ان قلّلت الجمهورية الاسلامية من تقدير الخطر التي يتهدّدها، أو أجلت دنوه على هواها. كما لن يكون ذلك ممكناً لو أنها غالت في تقدير نوعية الورقة التي استحصلت عليها بالقبض على البحارة البريطانيين، فمغالاة كهذه كفيلة بالارتداد العكسي السريع.

ثم إنه ليس أمثال ديفيد ريفكين ولي كيزي من يتوجهان وحدهما بالدعوة الى اقتناص الحدث. انه عندهما الوقت سانح بتشديد العقوبات، وللمزيد من «الحزم»، الى درجة التأهب للانقضاض. بل إنهما استبشرا خيراً في الطريقة الهوليوودية في استفزاز ايران من خلال فيلم «300» الذي يستعيد فترة الحروب الاغريقية ـ الفارسية، ويعود الى 480 عاماً قبل المسيح. النتيجة التي توصل اليها كل من ريفكين وكيزي في مقال نشرته بالأمس «لوس انجلس تايمز» هو أن الحكومة الايرانية قد قرّرت بفعلتها هذه أن تُعامَل من الآن فصاعداً كمنبوذة دولياً على كل صعيد، وأنّه ينبغي التأسيس على ذلك وعدم الرجوع عنه بصرف النظر عن حلّ أزمة البحارة التي تعيد للأذهان أزمة الرهائن في أيام الثورة. ليس ذلك سوى غيض من فيض من مقالات عصفت بالصحف الأميركية والبريطانية، تطرح على نفسها سؤال «ما العمل ان كانت ايران قد استبقت خيارات المجتمع الدولي، وفضّلت لنفسها خيار المواجهة والحرب».
وربّ سائل بالفعل ما العمل، ان كان ثمة مشروع حرب على ايران. وهذه ان وقعت ففي أمد منظور، يُحتسب بالأشهر.

ينبغي التمعن في امكان هذه الحرب. ذلك أن المشاهدة الفطنة لمكيافيلي في كتاب «الأمير» ستوضع مجدداً على المحك. فقد تساءل في الفصل الرابع منه: لماذا لم تنتفض بلاد داريوس التي غزاها الاسكندر المقدوني، ضد من خلف غازيها بعد موته. جوابه أن كل الممالك التي نعرفها هي محكومة بإحدى طريقتين: إما بأمير وتابعين له لا يساعدونه على الحكم الا كمنفذين، ولا يستشيرهم الا اعتباطاً، وإما بأمير محاط بكومة نبلاء ليسوا يستمدون شأوهم من سلطانهم، بل إنه الأول بينهم، ورصيد كل واحد منهم من الولاءات التي تسنده، وليس من ولائه لأميره.
الطريقة الأولى هي عند مكيافيلي تلك التي اتبعتها الامبراطورية الفارسية في العصر القديم فسهل سقوطها ما إن ضرب رأسها، وهو أمر التقطه أخيليوس ببراعة في أقدم مأساة أغريقية متروكة لنا، وقد وضعت بعنوان «الفرس» (رغم كل ما سيقوله ادوارد سعيد لاحقاً في أخيليوس، وبشكل متسرّع واقحامي لاتاريخي). لقد اعتقد مكيافيلي أن هذه الطريقة هي تلك المعتمدة في السلطنة العثمانية أيضاً. وهذا ما فهمته بريطانيا العظمى بشكل سريع في سياستها حيال كل من السلطنة العثمانية وايران في القرن التاسع عشر مثلاً. الحل الاستعماري هنا في غاية البساطة: يضرب الرأس، يفرط الجسم، أو يمسك بتلابيب الرأس، فلا يمانع الجسم.

الطريقة الثانية جعلها مكيافيلي في مثال تشكل الدولة الأمة، كتلك التي عرفتها فرنسا. الدولة الأمة لا تخرّ صريعة لمجرّد أنه يطاول رأسها. طبعاً، حينما تخرج الدولة الأمة من صفتها تلك الى ما يتعداها، فإن «استراتيجية الضربة القاضية» تعود فتصير سانحة. المثل هنا يعطينا اياه القرن التاسع عشر في حالة نابليون الثالث، أو لويس بونابرت. فالأخير تقدم جيوشه الى ميدان المعركة في سيدان ضد البروسيين، فكان أن اعتقل بعد ساعات قليلة من بدء الحرب، ما مكن بيسمارك من الزحف حتى مشارف باريس في صيف .1870

فهل من «استراتيجية الضربة القاضية» تنتظر في الصيف المقبل، أي استراتيجية تصيب الرأس للظفر بسائر الجسم دفعة واحدة، ولا تنتظر منه مقاومة ولا تمرّدا مجديا. مشاهدة مكيافيلي في حال داريوس تنطبق أيضاً على فارس ابان الفتح العربي. هوت بسرعة قياسية ما إن سقطت عاصمتها. فما الذي يمكن استشرافه الآن. هل إيران ولاية الفقيه تفلت تماماً من «قانون مكيافيلي» هذا؟ وهل يكون افلاتها منه، بالهروب من منطق الحصر الامبراطوري للسلطات في شخص واحد، الى اتباع تقنيات الجماعات لا الدول، بحيث يصار أكثر فأكثر الى تعويل «الطموح النووي» على أعمال كانت سابقاً تحصر بحلفاء ايران من الجماعات مثل حزب الله وحماس؟

مصادر
السفير (لبنان)