أهل الدستور والاشتراع هم أدرى بشعاب اللعبة البرلمانية التي برع فيها الرئيس نبيه بري الى حد أن ظُرفه وفّر له اسباب التسامح مع الكثير من أخطائه التي يعرفها هو مثل سواه من زملائه النواب، وبخاصة الاساتذة، وما أقلهم نسبياً.

لكن اللعبة فلتت أخيراً من أصابع "الساحر" فالاستحقاقات الدستورية طرقت باب المجلس، والمهل لا تسمح باجتهادات متحايلة على منطق النص ومعناه. والمرحلة تبدو أصعب من المرحلة التي فرضت اتفاق الطائف في العام 1989. ومشروع قانون المحكمة الدولية لن يعود الى نيويورك ليوضع في درج الاوراق الملغاة اذا ظل مجلس النواب اللبناني مغلقاً أمامه، بل سيجد طريقاً آخر له عبر نيويورك ذاتها وليس عبر بيروت أو دمشق التي تتظاهر بأن الامر لا يعنيها.

قد يكون الرئيس بري في هذه الايام، وأكثر من أي يوم مضى، سعيداً ومفاخراً بأنه "سيد" لبنان و"سيد" قراره وسيد التحكم بمصيره من بُعد. فهو في "عين التينة" يقبض على مفتاح قاعة الجلسات النيابية، وكأن هذه القاعة ملحقة بمكتبه الخاص، وفيها، لا في سواها، يتقرر مستقبل لبنان بدعوة منه وبحكم تفسيره هو للدستور وللنظام الداخلي للمجلس، وليس إستناداً الى تفسير يحترم منطق الدستور وينقذ البلاد من مصائب اضافية.

ولعل المصائب الاكبر من كل المصائب التي ذاقها لبنان حتى الآن ليست من خيال الخوف الذي يلاحق اللبنانيين، بل هي معلنة في الانذارات التي يوجهها اليهم "حزب الله" منذ حرب 12 تموز. وكان الانذار الاول في 30/10/2006 بما يعني "إعلان ثورة" اذا لم يتم الاتفاق خلال اسبوع على حكومة وحدة وطنية، وإلا فان المعارضة سوف تتظاهر لتسقط الحكومة ثم تجري انتخابات نيابية جديدة، كما قال السيد حسن نصرالله لتلفزيون "المنار".

هذا الانذار لم يسقط بعد، بل تبعه انذارات متلاحقة بتصعيد العصيان المدني نحو آفاق غير محددة. ومساء يوم 20/3/2007 اعلن رئيس جبهة العمل الاسلامي الداعية الدكتور فتحي يكن ان قوى المعارضة لو ارادت أن تقتحم السرايا وتحررها لما استلزم الامر اكثر من عشر ساعات. وهذا يعني ان "عملية تحرير السرايا" واردة بقوة السلاح. وماذا يعني ذلك غير اعلان ثورة؟
ثم، ماذا تعني أي ثورة، اذا انتصرت، غير ان تحكم؟ وماذا يعني انتصار ثورة المعارضة بقيادة "حزب الله" في لبنان غير إتاحة الفرصة للحزب كي يحكم؟ واستطراداً ماذا يعني ان يحكم "حزب الله" لبنان؟
يقول السيد حسن نصرالله ان أي طائفة لبنانية لا تستطيع، ولا يحق لها، ان تحكم لبنان بمفردها.
هذا صحيح. لكن ليس من الصعب على أي "ثورة" تنتصر بقوة السلاح ان تنشئ حكماً تتمثل فيه الطوائف والاحزاب بوزراء ونواب يختارهم "الحزب القائد" على غرار "الجبهة القومية" في نظام حزب البعث الحاكم في سوريا. وهذا حساب لا يستطيع "حزب الله" ان يلغيه من تفكير معظم اللبنانيين في مستقبل نظامهم وأجيالهم في وطن صغير تخترقه وتهزه التيارات المذهبية في المنطقة وتقلق الدول العظمى والشعوب القوية المتماسكة، فكيف بدولة ضعيفة وشعب متعدد الطائفة والمعتقد والثقافة؟

يؤكد السيد حسن نصرالله للبنانيين في كل مناسبة على ان سلاح "حزب الله" لن يوجه الى الداخل انما سيظل مشهوراً في وجه العدو الاسرائيلي. ويدعو السيد اللبنانيين الى ان يعتبروا سلاح "حزب الله" ضمانة وطمأنينة لهم وليس هاجساً مثيراً للقلق. لكن السيد لا يطمئن اللبنانيين وهو يكدس السلاح ويزيد مجموعات الصواريخ بعدما تحرر لبنان من وجود ذلك العدو على أرضه وبعدما اصبحت الحدود الجنوبية والحدود البحرية والاجواء الاقليمية تحت رقابة جيوش دول عظمى ترفع علم الامم المتحدة. صحيح ان خطر اسرائيل يظل قائماً على لبنان وعلى جميع الدول العربية ومنطقة الشرق الاوسط باكملها، لكن من حق اللبنانيين ان يدخلوا في "نظام الهدنة" مع اسرائيل أسوة بأهلهم وجيرانهم الكبار والصغار منهم، والاقوياء والضعفاء.
لا يريد "حزب الله" للبنان أن يستقر، بل يريده ان يبقى مستنفَراً معبأً مسترخصاً الحياة والمستقبل استعداداً للموت من اجل قضية لا نهاية لها ولا حد، في حين ان قضية اللبنانيين الاولى باتت بسيطة جداً وهي ان يعيشوا حياة طبيعية وان يختلطوا بطمأنينة من دون شك أو حذر، وان يتعلموا ويعملوا ويستثمروا ارضهم ومناطقهم ومناخهم وامكاناتهم ومؤهلاتهم الاقتصادية والسياحية والصناعية والتجارية والعلمية والثقافية وان يستعيدوا مكانة وطنهم وثقة العالم بدولتهم ومؤسساتهم. هذا وحده يكفيهم من عندهم، وما يأتي فوقه من الاخوان العرب ومن الدول الصديقة المتقدمة والغنية يزيدهم قوة ومنعة وسرعة في اعادة بناء وطنهم.

كل ذلك بات يحتاج أولاً الى حزب مدني من دون سلاح ولا ترسانات صواريخ ولا تعبئة دائمة واستنفار يقتطع من البلاد مناطق واسعة وصولاً الى العاصمة التي استرهنها "حزب الله" ووضع سراياها وشبكة مصارفها وقلبها التجاري والسياحي في مرماه. وقد فعل كل ذلك وهو يبتسم ويبسط كفه للحوار، وإلا، وهذا ما يعيد التذكير بجملة تاريخية للرئيس الاميركي الاسبق تيودور روزفلت الذي كان يقول لكل من اركان إدارته "تكلم بلطف ولكن احمل عصا غليظة". وكان آخر يقول: "بالكلمة اللطيفة يمكنك ان تحصل على بعض ما تطلب ولكن بالكلمة اللطيفة مع المسدس يمكنك ان تحصل على اكثر مما تطلب".

فلماذا الاختباء خلف الكلمات اللطيفة حيناً ثم الظهور بقسوة حيناً آخر؟ ولماذا بسط اليد للحوار حيناً ثم حمل العصا الغليظة مع المسدس حيناً آخر؟

ان "حزب الله" المسلح بكل معدات وتقنيات الجيوش الحديثة والمستقل والمنفرد بقيادته وقراره العسكري لا يمكنه ان يطمئن اللبنانيين بالوعود والضمانات عبر البيانات وعلى شاشات التلفزة أو في خطب المهرجانات والحشود الشعبية.
ثم كيف يطمئن اللبنانيون و"حزب الله" حر في عقد تحالفات عسكرية و"استراتيجية" مع دول اخرى عربية وغير عربية لها في لبنان اهداف ومصالح تتقدم على مصالح اللبنانيين واستقلالهم وسيادتهم ولا تحترم قرارهم الوطني؟
الى ذلك ثمة سؤال ليس بسيطاً أبداً يدور في أذهان معظم اللبنانيين، وهو: بين نظام لبنان ونظام ايران أي نظام يتبع "حزب الله"؟ من دون أدنى شك يتبع "حزب الله" نظام ايران فكيف يطمئن اللبنانيون؟

دستور لبنان ينص على صون حرية المعتقد الديني والسياسي تأكيداً على احترام حق مقدس للبناني في وطنه وفي مجتمعه المتنوع العقيدة السموية والحزبية. لكن هذا الحق لا يتعدى حدود الوطن. فما وراء الحدود وطن آخر، وشعب آخر، وحقوق أخرى وواجبات أخرى لا يحق لحزب لبناني ان يلزم وطنه وأهله بها، كما لا يحق له ان يلتزم بها وحده على حساب سائر اللبنانيين. وقد اعطى "حزب الله" الكثير من الامثلة على التزاماته خارج القانون.

فعندما نزل جمهور الحزب في احدى الليالي الى الشوارع وقطع طريق المطار الدولي وتوسع في اتجاهات مناطق أخرى إضطر السيد حسن نصرالله الى إصدار نداء قال انه "فتوى ملزمة" باخلاء الطرق والشوارع، وقد إنصاع الجمهور للفتوى - النداء، ولم يكن إنصياعه للقانون وللنظام. ما يعني ان الفتوى هي فوق القانون وفوق الدستور. فكيف لا يحسب اللبنانيون من جميع الطوائف حساباً لان يحكم "حزب الله"؟

ليس من حق أي لبناني أن يسأل لبنانياً آخر في معتقده. فالمعتقد في ثقافة اللبنانيين الروحية والسياسية حق مقدس يوجب احترامه وصونه. ولذلك فان الاحزاب ذات الطابع الديني لا تنسجم مع الاحزاب الديموقراطية القريبة من العلمانية. ولأن نظام لبنان ليس ديموقراطياً علمانياً يحكمه حزب الغالبية النيابية أو ائتلاف احزاب ديموقراطية، فانه يخشى أن يحكمه حزب من خارج هذه المجموعة.

ولعل رئيس مجلس نواب لبنان الاستاذ نبيه بري هو النموذج الفريد بين رؤساء برلمانات الدول. فالاستاذ بري لم يأت الى رئاسة المجلس بأصوات غالبية من "حزب الله" و"حركة أمل". انما أتى باصوات الغالبية الساحقة التي تمثل جميع الكتل النيابية والاحزاب السياسية الممثلة في مجلس النواب. وعلى هذا الاساس لم يكن يحق له ان يتحول فريقاً مع الاقلية ضد الاكثرية التي هجا اقطابها في مؤتمره الصحافي الاخير.

ملاحظة اخيرة: لو ان الرئيس بري يتصور ان حكومة الرئيس فؤاد السنيورة يمكن أن تفقد بعض نواب الغالبية هل كان يتردد في دعوة مجلس النواب الى عقد جلسة مناقشة عامة تنتهي بطرح الثقة بهذه الحكومة وصولاً الى اسقاطها؟
فهل يقبل دولته ان يتصور مجرد فكرة تعديل الدستور ونظام مجلس النواب لاعادة النظر في انتخابه رئيساً للمجلس؟ وهل يبقى رئيساً؟
لقد فقد الرئيس نبيه بري مكانة برلمانية احتفظ بها بالشطارة، أو بالضرورة، مدى خمسة عشر عاماً.
فهل انه ملتزم "فتوى" ما؟

مصادر
النهار (لبنان)