يعيد التنافس السياسي الأمريكي الحركة الديبلوماسية نحو مساحات بقيت غائبة منذ بداية القرن الحالي، فزيارة بيلوسي إلى المنطقة لا تأخذ أبعادها الحقيقية من مجرد عمليات الضغط على الإدارة الأمريكية، إنما في محاولة معرفة الممكنات التي تمتلكها السياسة الأمريكية حاليا في المنطقة، فلا أحد داخل الإدارة الأمريكية قادر على تقديم تصور لما يمكن أن يحدث بعد عام في المنطقة كلها، رغم وجود القوات الأمريكية...

في المقابل فإن الطروحات الأمريكية المناهضة للحرب في العراق تملك حلا واحدا في جدولة الانسحاب يضمن على الأقل تقليص النفقات وتقليل الضحايا، لكن هذا الحل في ظل تصاعد العنف يترك احتمالات مفتوحة امام السياسة الأمريكية في مواجهة أهم مسألتين:

الأولى- موضوع الطاقة التي تبدو متأرجحة ما لم يحسم العنف في العراق.

الثاني – الإرهاب الذي سيبقى معلقا طالما بقيت المعركة في العراق مستمرة، وربما ينتشر بشكل غير مسبق، فيما لو قدمت الولايات المتحدة مؤشرات على انهيار سياساتها في العراق.

فزيارة بيلوسي التي يعتقد أنها ستشمل دمشق لا تستطيع اختصار الزمن، او إعادة الأدوار الإقليمية كما كانت قبل احتلال العراق، لكنها في نفس الوقت تعيد الآلية السياسية إلى موقع جديد من التحرك السياسي بدلا من الضغوط، فما يحدث اليوم هو "إعادة إنتاج" اللغة السياسية من التهديد إلى الحوار، وهو يمكن أن يصبح بداية للوقوف على مساحة ظهور الأزمات وتكررها بشكل عنيف في السنوات السبع الماضية.

هذا الأمر يضع زيارة بيلوسي في موقع جديد، وذلك بغض النظر عن انتقادات الإدارة الأمريكية لها، فالمسألة بالنسبة لزيارة بيلوسي إلى دمشق لا ترتبط بالأداء السياسي السوري اليوم بعد جملة من التطورات، أو حتى في محاولات الديمقراطيين كسر الحواجز التي وضعتها إدارة بوش باتجاه المنطقة، في إعادة لصياغة الخطاب السياسي الأمريكي، فالعلاقات السورية الأمريكية قبل إدارة بوش كانت تتضمن اعترافا ضمنيا من الطرفين على ضرورة الحفاظ على العلاقات الواضحة رغم الاختلافات الحادة احيانا في وجهات النظر... فهذه العلاقة تعرضت على امتداد ثلاثين عاما لاختبارات قاسية لكنها لم تفقد مجالها الخاص إلا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، حيث بدا واضحا أن الإدارة الأمريكية على وشك خلق تبدلات نوعية في سياستها، لكن هذا التبدل اتجه نحو إنتاج الأزمات من جديد، رغم كافة المشاريع السياسية التي ظهرت وتم دعمها بالضغط السياسي والعسكري.

هم التنافس السياسي الأمريكي اليوم متجه نحو الأفق الاستراتيجي للولايات المتحدة، وهو ما يدفع إلى فتح كافة الأبواب التي أغلقتها الحروب الاستباقية للرئيس بوش، لكن هذا الأفق لن يكون بالضرورة متماشيا مع المصالح الأساسية في المنطقة، فالأمن القومي عموما تم تحويره بشكل واضح نتيجة استراتيجية المحافظين الجدد، وهو ما يدفع إلى البحث نحو صياغة هذا المفهوم من جديد وفق المصالح المتجددة للمنطقة، ومحاولة رسم ملامح استراتيجية للتعامل مع ما يمكن أن يحدث في المستقبل.

ما يهم اليوم في زيارة بيلوسي هو انطلاقة "خطاب سياسي" أمريكي لم تتضح معالمه بعد، بينما لم يتبدل الخطاب العربي عموما.. ولا حاجة لتأكيد هذا الأمر فيكفينا بيان "القمة العربية" أو التصريحات السياسية التي رافقتها.