لوموند 28/3/2007

الأفضل أن تضحك, إذا وجدت في نفسك القدرة على ذلك. كل مساء , في مسرح راميتا في دمشق, يأتي عشرات المشاهدين ليصفقوا للمثل حسين النجّار وزملائه وهم يؤدون مسرحية ( وجع البلد). وهي هزلية عراقية, يؤديها عراقيون من أجل عراقيين. هناك مليون منهم , ربما أكثر, يسكنون منذ أشهر في ضواحي العاصمة السورية , في جرمانا, السيدة زينب, قدسيا وصحنايا.

يعيشون غالباً مكدّسين في بيوت يرتفع آجارها باستمرار, أحياناً بدون دخل , غير قادرين على تصوّر شكل مستقبلهم.
لذا فعندما يبدأ المشهد الذي يقوم فيه الممثل حسين النجار , الذي اشتهر عن طريق التلفزيون العراقي, بإجراء مكالمة هاتفية وهمية مع أمه العجوز التي بقيت في بغداد عند وصوله إلى سوريا وهويبكي ويصيح, تثور عاصفة من الضحك والتصفيق من الكنبات المتعبة التي يشغلها اللاجئون من الفوضى في العراق.

تقول ميس كومار التي استقرّت في دمشق من تسع شهور:" أجرنا سيء, ولكني أفضّل ذلك على الدوران في شقتي".
تعمل ميس ممثلة في المسرحية, وتلعب دور شقراء شرقية محمومة تحثّ أصدقاءها في المنفى على استبدال لهجتهم العراقية القاسية سريعاً بال"شامي" أي اللهجة الدمشقية الناعمة.

تحدثت كومار عن المشهد في بغداد بعد الاحتلال الأمريكي في نيسان 2003, وكيف حدثت انتفاضة ثقافية انتهت سريعاً في حمى التفجيرات والاغتيالات. أكدّت كومار التي فقدت أخاً في تفجير سيارة مفخخّة أن المسرح كان دائماً مهماً في العراق حتى في زمن صدّام, ولن تقوم له قائمة إلاّ بعد مرور فترة طويلة.

في الفرقة التي شكلت على عجل في الخريف( قدّمت أول عروضها في 7 كانون الأول 2006) يتعايش السنة والشيعة بذكاء, تضيف كومار :" منتجنا كردي, ولا أجد شيئاً أضيفه بعد ذلك. إلاّ أنه يدفع لنا وكأنه يرمي النقود في وجهنا..."

إذا بقي الجمهور وفيراً فسوف تستمرّ أفيشات المسرحية بضع أسابيع أخرى. وقد يتبع ذلك جولة في سورية. لا تتطلع المرأة الشابة إلى أبعد من ذلك, ترفع كتفيها بإشارة عدم المقدرة على شيء ثم تنفض شعرها الأشقر قبل أن تعيد إصلاح ماكياجها.

هذا العمل, مع أنه غير ثابت, يجعل منها مميّزة. أصبح العراقيون الذين لا مدخول مادي لهم أكثر عدداً. في جرمانا, وفي دير الكاثوليك ابراهيم الخليل, تقطّع الأخت إيليان, لبنانية, باقة البقدونس لتحضير التبولّة اليومية بنشاط, وتصيح:" أرسلوا لنا النقود! أكبر قدر ممكن! وبأسرع وفت! سوف نعرف كيف نصرفها!" فالدير يحضّر وجبات غذاء للمحتاجين منذ فترة ليست قصيرة, ثلاث مرات في الأسبوع , لمسيحيين ومسلمين. ومعظمهم للأسف من العراقيين. تفتح الأخت سجلّ العائلات, تفصّل الأسماء وأعداد الأطفال المرتبطة بها. وتتنهّد قائلة:" نحن نحضّر لهم أشياء بسيطة , لحم وأرز و بطاطا , ونشكّ بأن بعضهم يكتفون بهذه الوجبات".

تقع جرمانا على بعد نصف ساعة بالسيارة من مركز العاصمة دمشق, وكان سكانها في الأصل من المسيحيين الذين جاؤوا من باب توما والدروز الذين جاؤوا من الجنوب. نفس الحارات المزدحمة بالباصات وسيارات التاكسي الإيرانية الصنع , نفس الصور لحافظ وبشار الأسد, رئيسي النظام الأب والابن. لاشيء بميّز هذه الضاحية عن المدن المحيطة ,سوى أن جرمانا أصبحت للأسف بمعظمها عراقية.

في فندق نخلة بغداد, ينتظر محمد السنّي زبائنه وراء طاولته, بينما يحضّر علاء المسيحي الصالة. هنا الأكل والشرب عراقيان. هناك يافطة معلّقة على الواجهة الخارجية تعلن عن الوصول القريب للمغني حسام الرسّام من منفاه المريح في إمارة دبي. حول المطعم, تنتشر وكالات السفر المتخصّصة في الاتجاه نحو العراق, لبنان والأردن.

عندما تنتهي صلاحية الفيزا يضطر العراقيون إلى الخروج من سورية ولو لمدّة ساعة واحدة للحصول على فيزا جديدة. ويفعلون ذلك غالباً في الوليد , المكتب الحدودي السوري العراقي الأقرب إلى دمشق.

ورغم الرعب اليومي في بغداد والخطورة الكبرى للطريق الذي يصل العاصمة العراقية بالحدود السورية , لم تنقطع الصلات أبداً. فهناك سيارات تاكسي تغامر على شريط البيتوم الذي يمتدّ على آلاف الكيلومترات عبر المقاطعات السنية بمعظمها والتي تجوبها كل أنواع الميليشيات والعصابات ليل نهار.

وحول المطعم, يصيح السائقون بصوت عال:" بغداد! بغداد!". وهذا السوق يقوده العراقيون أيضاً وهم الذين بدؤوا بموافقة نظام صدّام حسين إقامة علاقات تجارية مع سورية وخصوصاً في سنينه الأخيرة. يصل المسافرون كل يوم من جهنم, أكثر من ألف كل أسبوع حسب التقديرات الأقل تشاؤماً. من النادر أن تجد مسافرين بالاتّجاه المعاكس.

يشرح ياسين شيخان أحمد الذي يدير محلاً مقابل المطعم :" بشكل عام, يتوجه البعض إلى بغداد من أجل العمل, وهذا يخصّ من يدير تجارة بسيطة هناك وقد أسكن عائلته في دمشق".

في العراق يدير ياسين مؤسسة للبناء ويهتم بالمواصلات. بعد أن اختطف وبقي أسيراً لمدة أسبوعين عام2005 من قبل عصابة مسلحة, قرر الرحيل إلى سورية. لحق به بعض أخوته. وآخرون ينتظرون قبل أن يقرروا.

هذا الطريق شقّته أحلام أحمد منذ ثلاث شهور. اتجّاه بغداد. هي الأخرى اختطفت عام 2005, واتّهمت بالتعاون مع ميليشيا سنية, وهدّدت بالموت لأنها تشارك في مجلس محلّي مسؤول عن الحي, فهربت إلى دمشق مع عائلتها. وهنا, أصيب ابنها البكر أحمد بمرض موجع وغير معروف, وبحسب أقوالها:" لقد أخطؤوا التشخيص وأعطوه دواء غير مناسب". وقد رفضت تشريح جثّته لمعرفة الحقيقة, تقول :" أنا مؤمنة بماهو مكتوب علّي". وكان من المستحيل أن تقوم بدفنه في دمشق, التي تعتبرها محطة مؤقتةلإقامتها, لذا فقد عادت إلى بغداد مع النعش. الأيام الثلاثة التي أمضتها في مدينتها لمراسم الجنازة أقنعتها بضرورة العودة. تقول:" طبعاً, هناك القنابل والرعب الذي تشعر به لدى إرسال الأطفال إلى المدارس وشعورك بأنك قد لا تراهم عائدين, عدا انقطاع الكهرباء والماء الغير متوفر والفوضى العارمة...على الأقل هنا كل شيء يعمل". استقرّت أحلام في شقة بأثاث بهت لونه, وهي تراقب هندام ابنها ولبنتها اللذين لبسا الزي الرسمي للمدارس السورية. تقع المدرسة في حي السيدة زينب, وهو مكان مقدّس في ضاحية دمشق يرتاده الحجاج الإيرانيون من زمن بعيد.

هنا يقود الشارع حزب الإمام المتطرّف العراقي الشيعي مقتضى الصدر. ولكن أحلام السنيّة لا تقلق من هذه الناحية على الإطلاق: إنها تثق بالمخابرات السورية, وهي خدمات الأمن الداخلي, التي تقمع أي مظهر من مظاهر الصدام التي تحدث في بلدهاالأم. تقول:" رغم كل ما حدث, سورية تستقبلنا, كل شيء هادىء. وبالنسبة لي, هذا لا يقدّر بثمن".

هذا العرفان بالجميل يعبّر عنه سلمان أيضاً بنفس الحرارة. يقول:" هنا, أنا مازلت حيّاً, وهذا هو الأهم!". هذا الشاب من مواليد 1982, كان ضحية تعليمه وخصوصاً إلمامه باللغة الانجليزية. كان يعمل في مصفاة نفط وكلما حضر الجنود الأمريكان كان يطلب منه مقابلتهم.يقول:" شيئاً فشيئاً صار اسمي" المترجم", بدأ اللقب في المصفاة ثم انتقل إلى الخارج. وهذا اللقب كان معناه الحكم بالموت ( مثل كل الذين اتهموا بالتعاون مع قوات الاحتلال من قبل الميليشيات)" غيّر شركته , ولكن التهديد اقترب منه أكثر. ثمّ قتل أحد أصدقائه. ويؤكّد :" فقط لأنه كان يعرفني".

وهكذا رحل سلمان مع اثنين من أقربائه زيد وحسين. ومثل أحلام وضع سلمان على قائمة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي سوف تجتمع في نيسان في جنيف لبحث قضية اللاجئين العراقيين.يقول:" أعتقد أن الأمور ستتحرك وأنهم أخيراً سوف يهتمّون بنا." إنّه يأمل بالسماح له بالهجرة إلى الخارج. لأن سورية بدأت تنوء بحملها المتنامي من "المدعوين", وهي الكلمة الني تفضلها الجهات الرسميّة بدلاً من اللاجئين , بينما يدعوهم الشارع السوري بالعراقيين بكل قسوة. يبقي النظام السوري على عكس المملكة الأردنية الحدود مفتوحة. يقول أحد ممثلي وكالة عالمية:" هذا التصرّف لا يمكن تفسيره إلا بالبقية الباقية من آثار القومية العربية, لأنه وبنزاهة أقولها, الضرر الذي يلحق من هذه العملية يفوق بكثير ما يمثله اللاجئون العراقيون كورقة سياسية يمكن اللعب بها."
لقد أمل الرئيس السوري بشار الأسد أن يحظى "المدعوون" بنفس حقوق السوريين في المدارس والمستشفيات. ولكن في جرمانا كما في السيدة زينب, تجاوز تعداد الصفوف الحدود المسموحة. فأولاد أحلام يدرسون في صفوف تعدادها 45 طالباً. وأولاد ياسين , صاحب وكالة النقل, يتواجدون في صالات فيها أكثر من خمسين طفلاً. ويقدّر الاثنان أنه بحلول العام الدراسي الجديد سيصبح الوضع مستحيلاً.

لا تقتصر المشاكل فقط على مجال التعليم. لقد أدى التركيز على دمشق, المدينة الأكثر انفتاحاً من بقية التجمعات السكنية السورية, إلى ارتفاع الأسعار الجنوني. تشتكي الأخت إليان وتقول:" كل شيء أصبح غالياً جداً!" وهي تتكلم عن المواد الغذائية. ولكن الوضع الحرج بات يمس قطاع الإسكان. تقول فريال وهي شابة مسيحية تعمل في وكالة للسفر:" ببساطة لقد ارتفع إيجار سكني من 3500 إلى 8000 ليرة سورية بينما لم يرتفع بالطبع راتبي الذي يبلغ 18000 ليرة سورية. وأنا أعتبر ممن يكسبون جيداً, وليس عندي عائلة لأصرف عليها!"

ويوافق أحد التجار على كلام فريال ويلخّص الوضع قائلاً:" أوائل اللاجئين إلى الأردن وسوريا, كانوا يملكون المال. وهؤلاء كانوا من النظام السابق الذين أثروا على حساب العراقيين. ثم وصل بعد ذلك المنتمون إلى الطبقة الوسطى, والآن, يصل إلينا الفقراء الذين يفرّون من الموت وهم لايملكون شيئاً.

المعدمون منهم يتمكنون بطريقة ما من تسيير المعونات الغذائية التي تحقّ لهم وخصوصاً السكر والزيت من بغداد إلى دمشق. انقطاع الموارد يغذي المافيات المنظّمة المحلية أو العراقية. تؤكد مديرة مركز يستقبل عاهرات تائبات, وأصرّت على عدم ذكر اسمها, أن ثلثهن من جنسية عراقية. ومعظمهن سوف يجبرن على بيع أنفسهن مرة أخرى. والاعتراضات عليهن يومية. وأحياناً كوميدية. الكل يحتجّ على الضجيج والرائحة التي تسببها اللواتي جئن من بلد أكثر حرارة, ولأنهن يستفقن باكراً ويطبخن قبل الوقت المعتاد في دمشق. أو السخرية من المطبخ العراقي لأنه دسم وأقل تعقيداً من المطبخ السوري. وبالنسبة للمجتمع السوري فإنه يتصور "العراقي" فظّاً متيما بورقة ال100 دولار الأمريكية ومثالاً سيئاً.

وهكذا أدين الرعايا العراقيون بجريمة قتل درزي في جرمانا ,عام 2006, مما سبب أعمالاً انتقامية من قبلهم. وقد أثبت التحقيق فيما بعد أن المذنب سوري كان يقلّد اللهجة العراقية في قضية تصفية حسابات تافهة. ولقد قلق عراقيو دمشق عندما نشرت الصحافة السورية خبراً عن إجراءات أكثر تعقيداً سوف تطال نظام الفيز. ولكن هذا لم يحصل ولو أن المستقبل بالنسبة لهم يبقى غامضاً. نادرون هم الذين مثل أحلام وسلمان يريدون أن يبدؤوا حياة جديدة في الخارج. الغالبية العظمى تعد للأسف السنين أو الأشهر التي تفصلها عن رحلة العودة. عندما طرحنا السؤال على ياسين, صاحب وكالة السفر, قال :" ليس قبل ثلاث سنوات, ربما أكثر.." وفجأة أخفض رأسه وبكى بدون صوت.

بقلم جيل باريس