ويليام فاف

أسفر الاحتفال بالذكرى الستين لمبدأ الرئيس الأسبق هاري ترومان، عن تأويلين مختلفين لما يعنيه الآن ذلك الحدث. ويقف كلا التأويلين دليلاً على مدى عطب الذاكرة التاريخية من جهة، وكذلك على مدى انحيازها وخطورتها من جهة أخرى. وتتلخص الفكرة المتعصِّبة الجامدة، التي عبر عنها "دانيل فرايد"، مساعد وزيرة الخارجية، في العدد الثالث من دورية "إنترناشونال هيرالد تريبيون" الصادر يوم 13 من مارس الجاري، في أن ذلك القرار الذي اتخذه الرئيس الأسبق هاري ترومان، عام 1946، بتقديم العون الاقتصادي والعسكري لكل من اليونان وتركيا، الواقعتين تحت الضغط والتأثير السوفييتيين وقتئذ، قد أرسى مبدأ نشر الديمقراطية، باعتباره محوراً للسياسات الخارجية الأميركية.

وأضاف "فرايد" قائلاً إنه المبدأ الذي طالما تبنته السياسة الخارجية الأميركية منذ ذلك الوقت.

ووفقاً لذلك التأويل، فقد اعتبر مسؤولو إدارة جورج بوش، أن تدخلهم الحالي في العراق، يهدف إلى حماية تطلعات وآمال العالم الديمقراطية، ومن ثم فهو خطوة بذات الشجاعة والسبق اللذين اتسم بهما "مبدأ ترومان". ويخلص هؤلاء، اعتماداً على التأويل الخاطئ والمعطوب نفسه، إلى أن البقاء ومواصلة المهمة التي بدأت هناك، هو ما يبدو أنه الخيار الوحيد المتاح أمام الإدارة الأميركية حالياً، على رغم احتجاجات واعتراضات خصومها "الديمقراطيين"، وعلى رغم تصاعد الرفض الشعبي الأميركي لذلك الوجود العسكري، في كافة استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخراً. فالاحتفاظ بالوجود العسكري في العراق، وفقاً لذلك الاستنتاج هو السبيل الوحيد المفضي في نهاية الأمر، إلى إحراز نصر نهائي وحاسم على الراديكاليين الإسلاميين!

أما التأويل الآخر، المناهض للتأويل أعلاه، فهو أن "مبدأ ترومان"، قد دشن مرحلة جديدة من مراحل التاريخ والعلاقات الدولية المعاصرة، انقسم فيها العالم إلى قوى شر وقوى خير، وخاضت فيه أميركا عدة حروب لا مبرر ولا ضرورة لها، في كل من شبه الجزيرة الكورية وفيتنام، ثم انتهى بها الأمر إلى غزو العراق، وفقاً لما كتبه "جيمس كارول" في صحيفة "بوسطن جلوب". ولكن ربما يخطر على البال سؤال حول ما إذا كانت هذه الحجة مثارة في الأساس بشأن العراق وإيران، بينما يحتل فيها الرئيس الأسبق ترومان، موقع الشاهد الرئيسي على مسار أحداث التاريخ، أم لا؟

بالنسبة للأجيال التي لم تكن حاضرة وقتئذ، فقد اشتق ما يسمى "مبدأ ترومان"، من متن الرسالة التي بعث بها ترومان إلى الكونجرس في الثاني عشر من مارس عام 1946، طالباً فيها تقديم العون إلى كل من اليونان وتركيا. وفي تلك الأيام البعيدة من التاريخ الأميركي، كان الرؤساء يطلبون من الكونجرس إصدار القرارات بشأن القضايا الكبيرة المتعلقة بالحرب والسلام! وكانت القضية التي تضمنتها تلك الرسالة الرئاسية، على قدر كبير من البساطة والأهمية في آن، فيما يتصل بسياسات القوى العظمى.

فقد وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تاركة الكثير من بلدان منطقة البلقان ووسط أوروبا، تحت الاحتلال السوفييتي. وفي الوقت ذاته، كانت للأحزاب الشيوعية الأوروبية الكبرى، سطوة كبيرة على الحياة السياسية في كل من فرنسا وإيطاليا واليونان. وقد حظيت هذه الأحزاب بشعبية كبيرة، واستطاعت أن تلعب دوراً فاعلاً ومؤثراً للغاية، في حركة مقاومة كبيرة لما كان يعرف حينها بـ"دول المحور". وكانت تلك الأحزاب تعتبر نفسها، في مرحلة "ما قبل اندلاع الثورة". ولذلك فقد جمعت لها كميات كبيرة من الأسلحة، في انتظار إشارة خضراء لها من موسكو، حتى تنقضّ على حكومات بلدانها في مرحلة ما بعد الحرب. بيد أن تلك الإشارة لم يقدر لها مطلقاً أن تصدر من موسكو، سواء بالنسبة لإيطاليا أم اليونان. وكان الزعيم السوفييتي حينها، جوزيف ستالين، على قدر كبير من الواقعية. فقد كان مستحيلاً على تلك الأحزاب الشيوعية الأوروبية السيطرة على جهاز الدولة، لكون الدول التي كانت تنشط فيها، لم تكن واقعة تحت الهيمنة العسكرية ولا الرهبة السوفييتية المباشرة عليها. وذلك هو الشرط الوحيد الذي كان في مقدوره أن يمكِّن أحزاب أوروبا الشيوعية من الوصول إلى سدة الحكم. وللسبب عينه، فقد نجحت الأحزاب الشيوعية في دول أوروبا الشرقية، وكذلك في الشقين الشرقيين من ألمانيا والنمسا، وصعدت إلى سدة الحكم في بلدانها.

لكن ما أن تمكن خلفه –في قيادة الحركة الشيوعية العالمية- جوزيف تيتو من إحكام قبضته على السلطة في جمهورية يوغوسلافيا السابقة، حتى أضحت اليونان محاصرة من قبل جيرانها الموالين للمعسكر الشيوعي، في كل من بلغاريا ورومانيا، إضافة إلى محاصرتها من قبل تركيا المحايدة. وقد تمثلت مشكلة تيتو في أن تركيا كانت قد وقعت ضمن "اتفاقية توزيع النسب" سيئة الذكر، التي لم تعلن حينها، والموقعة بين تشرشل وستالين، في أكتوبر من عام 1944. وبموجب تلك الاتفاقية، فقد خضعت اليونان للنفوذ البريطاني القوي، في أعقاب الحرب، مقابل إعطاء السوفييت نفوذاً مماثلاً على كل من بلغاريا ورومانيا والمجر. لكن فات ستالين، الأخذ بحقيقة عدم وجود قوات سوفييتية في يوغوسلافيا، لعدم وصول أي قوات روسية إليها في السابق. ولذلك جرى تحريرها بواسطة الجهود الوطنية التي بذلها الشيوعيون اليوغوسلاف، بمساعدة عسكرية بريطانية، شاركت فيها وحدات المظلات من خلال مد المقاتلين اليوغوسلافيين بالأسلحة والأغذية والمؤن الحربية. وفي ذلك الوقت، كانت ألبانيا واقعة أيضاً تحت تأثير جارتها يوغوسلافيا.

أما بالنسبة لليونان، فقد تطلع كل من ستالين وتيتو إلى فكها من الأسر الغربي، بمساعدة الحزب الشيوعي هناك. والذي حدث، أن لندن أخطرت حليفتها واشنطن في وقت مبكر من عام 1947، بأنه لم يعد في وسعها مواصلة الدعم المالي، الهادف إلى كسر شوكة الشيوعيين اليونانيين. وهذا ما دفع واشنطن إلى تحمل العبء المالي عن لندن، اعتماداً على ما أسمي بـ"مبدأ ترومان". وما أن اندلعت الحرب الأهلية هناك، حتى خسرت واشنطن الحرب، وكذلك خسرها الشيوعيون اليونانيون، لصالح الفوضويين الذين دعمتهم واشنطن. أما خسارة الشيوعيين، فيفسرها قطع حليفهم اليوغوسلافي للمؤن والاستشارة الحربية عنهم.

على أن القضية التي أثارتها تلك الحرب، لم تكن لها علاقة بالتحول الديمقراطي في اليونان. فقد انتهت هذه الأخيرة إلى دولة فوضوية في أعقاب الحرب، لتتحول إلى ديكتاتورية شمولية بعدها في عام 1967، مع العلم بأنها ظلت كذلك منذ وقت طويل قبل اندلاع الحرب. وكانت القضية إذن، هي كيف تظل اليونان على ديكتاتوريتها وشموليتها، ولكن تحت رعاية واشنطن وحمايتها، خاصة بعد أن ضاقت واشنطن ذرعاً بنمط الديمقراطية اليونانية الفوضوي؟

والسؤال الآن هو: هل وعت إدارة بوش دلالات ذلك الدرس، في حربها الجارية الآن على العراق؟

عن "تريبيون ميديا سيرفيس"