من حق اللبنانيين أن يزدهوا بمشهد كبار المسؤولين في العالم، لا سيما الغربيين منهم، وهم يستهلون زياراتهم «الرسمية» بالوقوف أمام ضريح الرئيس رفيق الحريري، بالجلال الذي تستحقه شهادته.
لقد أعطى رفيق الحريري لبنان الكثير في حياته، وها هو يعطيه الكثير أيضاً بعد غيابه شهيداً.
أمس، على سبيل المثال، تناوب على الوقوف أمام الضريح، بالخشوع الذي تفرضه الشهادة، ضيوف كبار هم من أهل الصف الأول بين صنّاع قرارات السياسة الدولية:

 فأما الضيف الأول فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (ويعني اسمها بالعربية الملاك ـ المعجزة)، وهي ترئس الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي، الذي تحتفل دوله التي تتكاثر يومياً بالذكرى الخمسين لانطلاقته بزخم الفكر الاستقلالي (عن الأميركيين) عند الجنرال شارل ديغول (فرنسا) والمستشار الأول لدولة ألمانيا (الغربية آنذاك) كونراد اديناور... وبالتالي فالمستشارة مخوّلة بالحديث باسم أوروبا جميعاً.

 وأما الضيف الثاني فرئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي ومعها عدد من النواب، بينهم واحد من أصل لبناني، وقد جاءت بهم في جولة على بعض دول المنطقة بين أبرز محطاتها سوريا، وإن كانت السعودية ختامها.. وهدفها الأساسي الضغط على الإدارة الأميركية للانسحاب من العراق الذي يكاد فشلها في احتلاله يتسبّب لها بهزيمة سياسية مدوية، تؤثر على مكانتها في العالم... ولا يهم ماذا أصاب ويصيب العراقيين..
ولقد كان بديهياً أن تشرح كل من الضيفتين الرئاسيتين أسباب زيارتهما لبنان خصوصاً، والجولة في المنطقة عموماً، سيما وأن إسرائيل كانت محطة أولى في الجولتين..

فأما المستشارة الألمانية القادمة مباشرة من الأرض الفلسطينية المحتلة فكانت قد وقفت قبل يوم واحد فقط تلك الوقفة الاعتذارية التي يفرض الإسرائيليون على كل ضيوفهم الرسميين أن يقفوها أمام النصب التذكاري لضحايا «المحرقة» (الذين لم يكونوا بطبيعة الحال إسرائيليين، يومذاك، حتى لو كانوا كلهم أو جلهم أو بعضهم من اليهود..)..
ومفهوم أن يكون وقوف المسؤولين الألمان أكثر استدعاءً لمشاعر العظمة لدى الإسرائيليين.
ذلك أمر لا مؤاخذة عليه ولا تثريب..

لكن ما من حقنا أن نتوقف أمامه، نحن المضيف اللبناني، فهو ما حفل به التصريح الذي أطلقته هذه المستشارة الملائكية أو العجائبية، في بيروت، محملاً برسائل «قوية» موجهة إلى سوريا، وبالاتكاء على موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي، وهي الشغل الشاغل للبنانيين، أقله بتفاصيلها الدستورية التي تثير إشكالات ظاهرها قانوني وباطنها سياسي..
لقد اتخذت المستشارة الألمانية، التي نشأت كما هو معلوم في أحضان جهاز المخابرات هائل القدرات والقسوة في «ألمانيا الشرقية» قبل أن تحملها كفاءتها إلى موقعها الممتاز ـ بعد توحيد ألمانيا ـ من بيروت، ومن قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري، منطلقاً لإعلان رأيها في بعض السياسات التي تعتمدها دمشق، والتي كان بإمكانها أن تعلنها من خارج بيروت، إذا ما كانت تحرص على «سلامة لبنان واستقراره»... فليس من مصلحة لبنان أن تتخذ منه بعض السياسات الغربية منصة لإطلاق النار على سوريا.

إن للبنانيين والسوريين خلافاتهم وإشكالاتهم التي تراكمت خلال السنوات القليلة الماضية. ومن حق أي مسؤول عربي أو غربي أن يتوجه بالنقد أو بالاتهام إلى سوريا من عاصمته، لا أن يأتي إلى بيروت لكي يستخدمها كمنطلق لهجومه... بينما هو «ينصح» بضرورة بناء علاقات جيدة ومتكافئة بين البلدين الجارين، حتى لا نقول الشقيقين.

الحال ذاتها تنطبق على تصريحات رئيسة مجلس النواب الأميركي التي أعلنت انحيازاً مطلقاً لبعض القوى السياسية في لبنان في مواجهة القوى الأخرى..
ولسنا نناقش هنا مواقف هاتين الدولتين أو غيرهما من النظام القائم في دمشق، فهما دولتان كبيرتان بما يكفي لتقرّرا سياستهما تجاه المنطقة عموماً، وكل دولة أو قوة سياسية فيها على وجه الخصوص..

لكن من حقنا أن نطالب ـ إذا ما كان لبنان بعد دولة ذات سيادة ـ ألا يتخذ أحد من عاصمتنا «مربض مدفعية» لإطلاق قذائفه ضد سوريا، بذريعة أنه يريدها أن تعترف باستقلال لبنان وسيادته.
إن مثل هذا الاستخدام «الحربي» لبيروت كمنصة للهجوم على سوريا لا يخدم لبنان كثيراً... خصوصاً وأن قائد الهجوم الأميركي، بالتحديد، يذهب إلى دمشق في سياق معركته السياسية على الإدارة الأميركية لإجبارها على الانسحاب من العراق بعد فشلها في حربها لاحتلاله التي كلفت العراقيين حتى الساعة أكثر من نصف مليون شهيد وتدمير ما كان تبقى من عمران في أرض الرافدين..

ولسنا لنعترض على أن تصحّح الإدارة الأميركية مسلكها تجاه العرب، إذا كان ذلك ممكناً بعد، فتبادر إلى ترتيب أمر انسحاب قوات احتلالها من العراق، مكتفية بإنجازها «الحضاري» فيه الذي يذكّر بالاجتياح المغولي لبلاد الرافدين وقد كان بين أول ضحاياه المكتبات والمؤلفات العلمية والعلماء والمهندسون والأطباء والذين ينبع الغد الأفضل من عقولهم..

لكننا لا نقبل استغفالنا واستخدامنا كوسيلة للضغط على سوريا ليس حباً في لبنان واللبنانيين، وليس بقصد تكريم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولكن فقط من أجل تحسين شروط الاحتلال الأميركي للعراق أو تسهيل فرصة الانسحاب منه بعد فشل الاحتلال إلا في تدمير ما كان ـ ذات يوم ـ مشروع الدولة العربية الأقوى، بعلمائها وخبراتها وكفاءاتها فضلاً عن قدراتها الاقتصادية.
هم يجنون الثمار ونحن نحصد الشوك... إنها والله لقسمة ضيزى!

مصادر
السفير (لبنان)