قد لا تكون زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، الديموقراطية نانسي بيلوسي كبيرة الأهمية على ‏صعيد التأثير في تطورات المنطقة ولبنان، لأن ادارة الرئيس جورج بوش ما زالت تمسك بمفاصل ‏السياسة الاميركية الخارجية. وهي تقوم بمقاربة تقرير بايكر - هاملتون في شكل انتقائي. الا ‏ان هذه الزيارة تكتسب اهمية كبيرة لجهة تقديم الدلائل على ما يمكن ان تبلغه السياسة ‏الاميركية في المنطقة على المديين المتوسط والبعيد.‏

فحتى زيارة بيلوسي كان خصوم سياسة بوش اللبنانيون يراهنون على ان الحزب الديموقراطي ‏الذي حقّق اكتساحا في مجلسي النواب والشيوخ والذي يمارس ضغوطاً على ادارة بوش لتغيير ‏سياستها في العراق سينجح في احداث انقلاب داخل الادارة الاميركية يؤدي الى تغيير نهجها ‏المعتمد في الشرق الأوسط، بحيث تتراجع الضغوط التي يمارسها بوش و«صقور» إدارته على المحور ‏السوري - الايراني، فيستعيد جزءاً كبيراً من الهامش الذي كان يملكه قبل عامين تماماً، اي قبل ‏انسحاب القوات السورية من لبنان. وقد استند هؤلاء الى المحادثات المتعدِّدة الاطراف التي جرت ‏حول العراق بدءاً باجتماع بغداد، حيث التقى السوريون والاميركيون والايرانيون الى طاولة ‏واحدة للبحث في مستقبل العراق، كما وجد هؤلاء الخصوم في الانتقاد الذي وجهه الملك السعودي ‏عبدالله بن عبد العزيز الى سياسة الولايات المتحدة في العراق و«احتلالها» له مؤشرا الى ‏صوابية اتجاههم السياسي، خصوصاً في ظل ميل الجانب السعودي الى لعب دور الوسيط في حل مشاكل ‏المنطقة الى جانب طهران، وفق ما توحي به التطورات المتعلقة بالملفين اللبناني والفلسطيني.‏

لكن ديبلوماسيا عربيا يقرأ في زيارة بيلوسي اشارات مختلفة تضع النقاط على الحروف في ما ‏يتعلّق بالمسار الذي يمكن ان تسلكه السياسة الأميركية ازاء لبنان والمنطقة في المستقبل. ‏واعتمد الديبلوماسي عبارة «الواقعية السياسية» في وصف الرسالة التي أظهرتها زيارة ‏بيلوسي والموجّهة خصوصاً الى المعارضة، اذ تتضمن دعوة مباشرة اليها للدخول في مسار واضح ‏نحو تسوية لبنانية ما، لأن المراهنة على انقلابات حقيقية في سياسة واشنطن الشرق أوسطية ‏أو اللبنانية ليست في الأفق، لا في عهد بوش ولا في عهد الادارة المتوقّعة في أواخر العام 2008 ‏التي، وإن كانت ديموقراطية، فهي لن تكون مناقضة لسياسة بوش في الخطوط العامة. ويذكّر ‏الديبلوماسي بأن في الحزب الجمهوري من يوجه اليوم انتقادات الى سياسة بوش تقارب في ‏مضمونها تلك التي يوجهها الديموقراطيون. وهذا يعني ان التغيرات الممكنة في السياسة الأميركية ‏ليست انقلابية وسريعة، كما ان ادارة بوش تمتلك من الوقت ما يكفي للعب أوراق كثيرة قبل ‏رحيلها عن البيت الابيض، سواء في لبنان او في العراق، بحيث تبدو التطورات سريعة في هذين ‏الملفين خلال العامين المتبقيين من ولاية بوش، ولا يمكن لأي طرف سياسي توقع اتجاهات السياسات ‏الدولية في شكل واضح خلالهما.‏

ومن النقاط التي أكدت عليها بيلوسي في بيروت الدعوة الى انجاح «ثورة الأرز» والكلام على ‏ضرورة اقرار المحكمة الدولية والدعوة الى دور ايجابي لسوريا في العراق وفلسطين ولبنان، اي ‏وفق ما يقرأ هذا الديبلوماسي، يلتزم الديموقراطيون في الولايات المتحدة سقف القرارات ‏الدولية جميعها حول لبنان. وهذا هو السقف الذي يلتزمه الجمهوريون ايضا، لكن الفارق ‏يبدو في أسلوب مقاربة الموقف السوري الذي تتشدّد ادارة بوش في التعاطي معه، فيما يرى ‏الديموقراطيون حاجة الى «جذب» سوريا في اتجاه التعاون، بعيداً عن ايران، لتثمير رصيدها في ‏حلحلة مشكلات المنطقة.‏

هذه الرسالة التي قدمتها بيلوسي الى المعارضة اللبنانية لانتهاج سياسة اكثر واقعية ‏توازي في أهميتها ما تحمله من رسائل واشارات الى فريق الغالبية وحكومة الرئيس فؤاد ‏السنيورة لجهة «كبح» جماح الرهانات التي يلتزمها بعض القوى في داخلها ضد سوريا ومدّ بعض ‏القوى خطوط التعاطف مع المعارضين لنظام الحكم فيها.‏

فهذا يدلّ على قصور في نظر هذه القوى في تقويم موقع نظام الحكم في دمشق الذي أثبتت ‏التطورات، على خطورتها، ان لا بديل منه لاستقرار المنطقة.‏
من هنا، بات على جناحي الأزمة المتصارعَيْن في لبنان «النزول» الى الأرض والكف عن المراهنات ‏الخارجية المتبادلة عربياً واقليمياً واوروبياً وأميركياً، لأن اياً من الأطراف الداخليين ليس ‏قادراً على الامساك بمفاصل السياسات الدولية التي لطالما دفع البلد ثمنها.‏