ألقى ميشال عفلق خطابا في ذكرى مولد الرسول العربي على مدرج الجامعة السورية بدمشق بتاريخ 5 نيسان 1943 تحدث فيه عن أهمية الحدث وربطه بمقومات الايمان العربي.
في بداية محاضرته في «ذكرى الرسول العربي» يفرّق (عفلق) بين نوعين من الكلام، الأول، هو الذي يعبّر عما في صاحبه من حاجة وعواطف. لذا، فالكلام خلاصة حياة وموقف من الحياة، والإخلاص للكلمة هو أساسي، وعندما كان العربي يقول: «أعطيك كلمتي» أي أنه قد تقيد بمضمون هذه الكلمة حتى النهاية.

أما الثاني، فهو كلام خارجي للتداول سمّاه نوعا من الهذر او كالورقة التي فقدت قيمتها النقدية. ثم يربط (عفلق) هذا المدخل بالشخصية فيقول بأن العرب كانوا في الماضي من النوع الأول ثم صاروا اليوم من الثاني وفقدوا الترابط بين ماضيهم وحاضرهم من ناحية، كما فقدوا الرابط بين جوهرهم وحاضرهم.

والماضي هنا، هو الأجداد الأبطال والحاضر هو هذا «الطلاق بين الفكر والعمل».
ثم يدخل (عفلق) صلب الموضوع فيتحدث عن الإسلام فيحدده بأنه:

1ـ ليس مجرد حادث تاريخي «مرتبط بالزمان والمكان او بالأسباب والنتائج». فالإسلام ليس وليد البيئة او التطور في الفكر العربي، ولم يوجد لأن القبائل العربية كانت بحاجة لقائد او لنبي ولا نتيجة اي سبب سياسي او اجتماعي او ديني.

2ـ الاسلام هو «صورة صادقة ورمز كامل خالد» لطبيعة النفس العربية، هو «الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الأمة العربية فتجيش بالحياة الحارة جارفة سدود التقليد وقيود الاصلاح ولا تعود من نشوتها قادرة على التزام حدودها الذاتية فتفيض على الأمم الاخرى فكرا وعملا وتبلغ هكذا الشمول».

الاسلام، إذاً، كان كامنا في النفس العربية، واتى وقت من الأوقات تحرك كما يكون البركان في باطن الأرض، انفجر، ولأنه كان فرحا مرحبا لم يستطع ان يكتفي بذاته، اي بالذات العربية (فأفاض) على الأمم الاخرى بفكره وعمله.

ان كلمة الفيض تعدنا الى الفلاسفة اليونان والعرب، (كالفارابي) و(ابن سينا) و(افلاطون). الاسلام هو العقل الفعال، القائم بذاته، المبدع الذي يجرد الصور من مادتها ليجعلها عقلا، وكما ان نسبة العقل الفعال الى العقل الإنساني كنسبة الشمس الى العين، كذلك الإسلام للعالم هو الضوء الذي يرونه.

والعلاقة الممتازة تبين الاسلام والناس وطريقة التصوف العقلي الذي ينسى كل شيء ليغوص في ذاته فيكتشف المصدر «يعرف كل شيء عن نفسه» كما يقول الفارابي.
الفيض هو من الطبيعة وبحكم الطبيعة، فكما تفيض الزهرة أريجها كذلك يفيض الله عقلا فعالا والعقل بدوره يفيض استنارة، والاسلام في هذا الفيض يفيض بدوره على العالم.
ان الصورة الفلسفية الكامنة عند عفلق هي محاولة تجريد عقلية رغم أنها مغلفة بالعواطف.
الاسلام، تجربة أخلاقية عصبية، جعلت العرب ينقسمون على أنفسهم، تجاوزوا واقعهم ليحققوا «وحدة عليا».

لقد عرف العرب الاسلام، فكان صدمة الوعي لديهم، بعضهم أراد ان يهرب منها، بعضهم تمرد عليها لكن البعض قبلها، واستطاع القابل ان يجمع الآخرين، ليتوحدوا من جديد تحت رايتها، واكتشفوا بها ذواتهم المليئة بالمثل العليا، وهذا ما عبّر عنه بقوله:
«لذلك فكل ما عمله العرب من فتوحات وعلوم وابداعات انما هو القليل مما عاشوه في نشوة الاكتشاف الذاتي لاسلامهم.

ان ما حدث ذات يوم، يمكن ان يحدث كل يوم لأن الاسلام ليس حادثا والفيض دائم، لأن المصدر خالد.

وكما أنه لا يمكن لانسان ان يفهم المتصوف إلا إذا عاش التصوف، وكما ان الحب لا يمكن ان يُفهم إلا بعيشه وإحساسه، كذلك تجربة الاسلام الروحية لا تفهم بل تعاش».

4ـ ان حياة الرسول هي خلاصة الاسلام، وهي خلاصة معرفة العرب لذاتهم. ان (السيرة) هي الشهادة والعرب منذ سنين يقرأون السيرة من دون ان يحسوها، لذا فهم يعظمون الرسول لأنهم عاجزون عن السير على خطاه، يقرون بعجزهم من خلال تعظيمه.

انهم قادرون ان يتشبهوا به ولو لم يقدروا ان يكونوا مثله «طبيعي ان يعجز اي رجل مهما بلغت عظمته ان يعمل ما عمل (محمد) لكنه يقدر ان يكون مثله»، ولو بنسبة الحصاة الى الجبل ما دام ينتسب الى أمة أنجبت (محمدا). وهنا يدخل (عفلق) في محاكاة فلسفية مرة اخرى، فهل الأمة أنجبت (محمدا) ام ان (محمدا) هو الذي انجب الأمة؟

الأمة أنجبته كشخص، لكنه وعى قبل غيره (الإفاضة) وعاش (التجربة الروحية) فلبسته، لذا، انجبها من جديد. إنه (تعمد) بالإشراق، فعمّد شعبه بالكلمة والفعل (فولدها ثانية).

5ـ ويتساءل (عفلق) تساؤل المفكر الفيلسوف: لماذا تم الأمر مع (محمد) وبزمن (محمد) وفي بيئة (محمد)؟
ويجيب «ان اختيار العرب لتبليغ رسالة الإسلام كان بسبب مزايا وفضائل أساسية فيهم». يعود (عفلق) الى قصة الشعب المختار، ويرى ان انتظار الله تلك السنوات كي (ينصر الإسلام) إنما كان من أجل ان يعيشوا الايمان من خلال تجربتهم هم، اي ان الاسلام لم يُمنح لهم (بنعمة خاصة) بل بجهد شخصي.

6ـ ثم يحدد (عفلق) الاسلام بأنه (حركة عربية). فما دامت لغته عربية، «وفهمه للأشياء كان بمنظار العقل العربي، والفضائل التي عززها كانت فضائل عربية، والعيوب التي حاربها كانت عيوبا عربية»، فمن الطبيعي ان يكون المسلم عربيا، وهكذا كان و«المسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي».

7ـ لكن الاسلام لم يقتصر على الاسلام «فكل أمة عظيمة، عميقة الاتصال بمعاني الكون الازلية تنزع في أصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة... فرسالة الاسلام انما هي خلق إنسانية عربية. وهذه هي الرسالة الخالدة».

8ـ فرادة العرب ان يقظتهم اقترنت برسالة دينية.. منفصمة عن تلك اليقظة القومية.
لذا، يرى (عفلق) ان الفتوحات إنما كانت لأداء الواجب في نشر هذه الرسالة، ويشجب (عفلق) كل الأسباب التي يعزوها البعض للفتوحات اقتصادية كانت أم عنصرية.

9ـ عن التغيير في صورة الاسلام يقول (عفلق) «الاسلام عام وخالد، لكن عموميته لا تعني انه يتسع في وقت واحد لشتى المعاني والاتجاهات بل انه في كل حقبة خطيرة من حقب التاريخ وكل مرحلة حاسمة من مراحل التطور يفصح عن واحد من المعاني اللامتناهية الكامنة فيه منذ البدء... هو نسبي لزمان ومكان معينين، مطلق المعنى والفعل في حدود هذا الزمان وهذا المكان».

ان التعامل مع الاسلام اليوم كالتعامل في الماضي من حيث الصورة هو تحجر ضد الاسلام، والتعامل معه في تغيير جوهره هو ضده ايضا.

الصورة تتغير طبق الزمان والمكان والجوهر يبقى، والحاجة اليوم هي اكتشاف الصورة المناسبة للزمان والمكان في الاسلام لإعادة تطابق الجوهر مع المظهر.

10ـ وهذا الاكتشاف هو ما يدعو اليه (عفلق). انه القومية العربية «التي تخاف منها أوروبا».
لذا، فهي تحاول القضاء عليها، لأن القومية العربية هي الإسلام من جديد بثوب العصر.
وهنا يشرح (عفلق) لماذا القومية الأوروبية لم تفلح، لأن لا رابط روحيا لها، القومية في أوروبا أتت بديلا عن الدين في حين ان القومية العربية أتت صورة عن الدين، لذا فلا غرابة ان تطلق في أوروبا صيحات العلمنة، اي فصل الدين عن الدولة، في حين ان العروبة تقتضي القول ان الدولة والدين وجهان لعملة واحدة، لذا «فعلاقة الاسلام بالعروبة ليست إذاً كعلاقة اي دين بأية قومية».

11ـ ويرى (عفلق) ذاته ـ كونه مسيحيا ـ يدعو أبناء دينه لأخذ الاسلام «كثقافة قومية»، يجب ان يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم.

مصادر
السفير (لبنان)