هل كان أحد منكم موجوداً هناك لمراجعة الوظائف مع مكتب البريد الأميركي عام 2005؟ هل تتذكرون ماذا كان يحدث عندما كنتم تتصلون برقم 800 للحصول على معلومات؟ بالتأكيد تتذكرون. هل تتذكرون صوت الشخص الذي كان موجوداً على الطرف الآخر من الخط كي يقدم لكم المساعدة، وكيف كان يبدو وكأنه صوت شخص يتحدث الإنجليزية بلهجة بريطانية ممزوجة بلكنة أفريقية خفيفة؟ هل تدركون السبب؟ السبب هو أنه كان يتم تحويلكم إلى مركز مكالمات موجود في كينيا.

لعلكم لم تكونوا تبحثون عن وظيفة، وأن كل ما قمتم به في ذلك الوقت هو أنكم اشتريتم جهاز كمبيوتر جديداً، وقمتم بتشغيله، والضغط على إيقونة معينة خاصة بواحدة من كبريات الشركات الأميركية العاملة في مجال تزويد خدمات الإنترنت، للحصول على خدمة "سعة نطاق الاتصال" Bandwidth ولكنكم لم تكونوا تعرفون ما يتعين عليكم عمله، ولذلك كنتم بحاجة إلى شخص على الهاتف يشرح لكم هذا الأمر على الهاتف خطوة خطوة حتى تتمكنوا من الاستفادة من هذه الخدمة. ومرة أخرى فإن هذا الشخص الفني الذي فعل ذلك، كان شخصاً كينياً يعمل في نفس المركز الذي كان يعمل فيه الشخص الأول وهو مركز نيروبي للاتصالات المعروف باسم كين كول KenCall الذي يعمل من موقع مهجور كان يستخدم من قبل كمصنع للفواكه، والذي يعد الآن أكبر مركز اتصالات من بين مراكز الاتصالات، التي تحفل بها العاصمة الكينية، والتي أصبحت تشكل قوام صناعة تصدير الخدمات للدول الأجنبية، وهي صناعة مزدهرة في كينيا حالياً. ويبلغ عدد العاملين في هذا المركز 300 موظف ويحقق عوائد سنوية جيدة، وصلت في السنة الأخيرة إلى 3.5 ملايين دولار، وذلك منذ أن افتتح أبوابه قبل ثلاث سنوات. وإذا ما كنتم تندهشون بسبب وجود هذا المركز في كينيا، فإن هذه الدهشة لا تقتصر عليكم وحدكم ولكنها تشمل أيضاً كافة الزبائن الذين يستفيدون من خدماته.

فعلى سبيل المثال قالت لي" نينا نايونجيسا" المشرفة على مركز "كن كول" للاتصالات: "تحدثت منذ فترة مع سيدة في أميركا طلبت مني تركيب خط D.S.L (خط المشترك الرقمي)، والذي يستخدم لتسريع أداء الإنترنت، فقمتُ بإجراء اتصالاتي بشركات في أميركا من أجل تجهيز تلك الخدمة. ومن باب حب الاستطلاع، سألتني تلك السيدة عن المكان الذي أتواجد فيه، ولما علمت أنني في كينيا اندهشت جداً بسبب سرعة الخدمة ودقتها، مما جعلها تقرر شراء ثلاثة خطوط لها ولأقربائها، وهكذا فإنني بدلاً من أن أبيع خطاً واحداً بعت ثلاثة خطوط".

ومركز "كين كول" وأمثاله من ضمن الأسباب التي أدت إلى نمو الاقتصاد الكيني بنسبة 6 في المئة العام الماضي. صحيح أن كينيا لا تزال على رغم ذلك تعاني من كافة العلل التي تعاني منها الدول الأفريقية بدءاً من الإيدز وحتى الفقر المدقع، إلا أن لديها على الأقل حكومة منتخبة ديمقراطية، تعلمت كيف ترفع يدها عن رجال الأعمال، وكيف تزودهم بخدمات الإنترنت المتطورة التي يحتاجون إليها للمنافسة عالمياً.

لا يزال الوقت مبكراً جداً لإعلان أن كينيا قد غدت "نمراً أفريقياً" غير أن ما يمكن قوله على الأقل هو أن هناك شيئاً ما يتحرك في كينيا في الوقت الراهن، ويستحق المشاهدة فعلاً وأن "كين كول" يعد رمزاً لذلك.

والذي دشن هذا المركز هو "نيكولاس نيسبيت"، وهو نصف إنجليزي نصف كيني بمشاركه شقيقه "إيريك" وصهره "ستيفن ليجينز". والثلاثة كانوا قد حققوا نجاحاً مهنياً في "وول ستريت"، وكان الطريق مهيأً أمامهم لتحقيق المزيد من النجاح، ولكنهم قرروا العودة إلى الوطن بعد انتخاب حكومة ديمقراطية في كينيا عام 2002 كي يروا ما إذا كان بمقدورهم أن يفيدوا وطنهم ويفيدوا أنفسهم أيضاً من خلال الاستفادة من أعداد الخريجين الجامعيين الكبيرة الموجودة في كينيا التي تضم كفاءات عديدة تتحدث الإنجليزية في اقتحام أبواب صناعة تصدير الخدمات للخارج.

كانت هناك مشكلة كبيرة تواجههم في ذلك الوقت وهي أن كينيا شأنها في ذلك شأن معظم دول شرق أفريقيا، لم تكن متصلة بأي شبكة ألياف بصرية يمكن أن تزودها بنطاق تردد موجي عريض رخيص الثمن من المستوى الذي تحتاجه مراكز الاتصالات. فخدمات الإنترنت في كينيا تأتي حالياً عبر الأقمار الاصطناعية، مما يجعلها أكثر تكلفة، مع العلم بأن التكلفة كانت أصلاً مرتفعة لأن شركة الهاتف الحكومية الكينية، كانت هي التي تحتكر الخدمات الهاتفية في البلاد. وقد عملت الحكومة الكينية مؤخراً على معالجة هذا الأمر من خلال الإقدام على خطوة نادراً ما يتم اتخاذها في أفريقيا وهي التخلي عن احتكارها لخدمات الهاتف والإنترنت، وفتح باب المنافسة لتقديم خدمة النطاق الموجي العريض عن طريق الأقمار الاصطناعية. وتعمل الحكومة الكينية في الوقت الراهن بجد من أجل الارتباط بشبكة الألياف البصرية العالمية، وهو ما يجعل خدمات النطاق الموجي العريض رخيصة ومتاحة أمام كافة مراكز تصدير الخدمات.

لذلك كله أقول إنه يجب علينا ألا نيأس من أفريقيا. فعن طريق تخفيف اللوائح والأنظمة الحكومية قليلاً، وتحقيق المزيد من الديمقراطية وزيادة خدمات النطاق الموجي العريض، فإن رجال الأعمال الأفارقة يمكنهم أن يمارسوا هذه اللعبة أيضاً بحيث نرى العديد من مراكز الاتصال في القارة.

يقول السيد "نيسبيت" معلقاً على ذلك: في الأزمنة القديمة كان يتم استخدام تعبير"دولة حبيسة" للإشارة إلى الدول المحاطة باليابسة من جميع الجهات وتفتقر إلى منفذ بحري، أما اليوم فإن المفهوم قد تغير وأصبحت الدول الحبيسة هي تلك الدول غير المرتبطة بالشبكة العالمية للألياف البصرية.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)