الاتحاد

توماس فريدمان

تساءل العالم منذ عقود خلت: كيف لنا أن نحرر أفريقيا من نير الفقر والمرض وآفة سوء الحكم؟ وما أن توجهت بهذا السؤال إلى الكينيين، حتى أدهشتني سهولة وحكمة الإجابات التي قدموها. ويتألف الحل للمشكلات الثلاث الرئيسية التي تعانيها القارة، من أربعة عناصر هي: الشفافية، الهواتف، الهدف، وحفاظات "كوتيكس" الصحية للفتيات. وعلى سبيل المثال، فالشابة "نيساي توبيكو"، تبلغ من العمر 28 عاماً، وقد نشأت في منطقة قبائل "الماساي"، وهي تتولى إدارة شركة للعلاقات العامة. وقد لاحظت منذ لقائي بها أنها لا تريد أن تتحدث إلا عن أمر واحد هو النقص الحاد في الحفاظات الصحية للفتيات. ومضت "توبيكو" في شرح هذه المشكلة على النحو الآتي: كانت عائلتي ميسورة الحال نوعاً ما، بحيث تمكنتْ من إلحاقي بالمدرسة، حيث نلت قسْطاً من التعليم والنجاح. لكنني وما أن تقدمت في الفصول الدراسية، حتى لاحظت أن الفتيات المنتميات لعائلات أفقر من عائلتي، يتغيبن عن الفصل والدراسة أربعة أيام من كل شهر. وكان طبيعياً أن أسعى لمعرفة السبب، فأسررن إليَّ أن تغيبهن يعود إلى فترة الحيض التي تقضي عليهن بالبقاء في منازلهن، بسبب عجز آبائهن عن شراء الحفاظات الصحية لهن. "فكيف لي أن آتي إلى المدرسة وأنا في تلك الحالة؟"، كما قالت لها إحداهن. وقالت أخريات إنهن يستخدمن قطع القماش البالية الممزقة، أو الطين أو التراب بديلاً للحفاظات. ومضت "توبيكو" إلى القول إنه وبسبب هذا الغياب الشهري المنتظم عن الدراسة لمدة أربعة أيام متتالية، فقد تخلت الكثير من الفتيات عن مواصلة تعليمهن. وهذا ما دفع "توبيكو" للانخراط في العمل مع منظمة "شبكة الفتيات" وغيرها من المنظمات الطوعية غير الحكومية، وإطلاق مشروع يهدف إلى توفير الحفاظات الصحية المجانية للفتيات في المناطق الريفية الكينية. وعلى رغم أن المشروع يستهدف حوالى 500 ألف فتاة ريفية، إلا أنه تمكن حتى الآن من تلبية حاجات 189 ألف فتاة فحسب. غير أن الفكرة التي يقوم عليها المشروع هي في غاية البساطة والواقعية: فمزيد من الأيام الدراسية المنتظمة، يعني مزيداً من النساء المتعلمات، وبالتالي إعداد أمومة أفضل للمستقبل.
أما على صعيد الممارسة السياسية الديمقراطية، فقد نظمت كينيا أولى انتخاباتها التعددية الحزبية عام 1992، بينما تتم دورتها الانتخابية المقبلة في شهر ديسمبر من العام الحالي. وبهذه المناسبة، فإن الكينيين يبدون إعجاباً بترشيح السيناتور "باراك أوباما"، الكيني الأصل، في الانتخابات الرئاسية الأميركية. ويقول أحد أفراد قبيلته "لو" ساخراً: يا للعجب! فلو كان أوباما هنا في وطنه الآن، لما حلم بترشيح نفسه رئيساً لكينيا في يوم من الأيام، بسبب انتمائه القبلي! وعلى رغم أن الساحة تحتشد هنا بمن يرغبون في ترشيح أنفسهم للرئاسة الكينية، إلا أن أكثر حوار مثير للاهتمام، جرى هنا بيني وبين أحد الذين لا يطمحون إلى الترشح مطلقاً.
ومحدثي هذه المرة هو "فيمال شاه"، وهو صاحب شركة "بيدكو" للخدمات النفطية. وقد أبدى "شاه" شغفاً بالحديث إليَّ عن رغبته في توسيع ومضاعفة استثماراته خلال الأشهر الثمانية المتبقية على إجراء الانتخابات الرئاسية في البلاد. وقال موضحاً لي خطته أكثر: "لعلك لا تدري أن المستثمرين يتخوفون من توسيع أنشطتهم في العام الذي تجرى فيه الانتخابات، مخافة أن يأتي الرئيس الجديد فيغير كل شيء، لصالح حاشيته ومؤيديه عادة". غير أن "شاه" مثل كثيرين غيره من مستثمري اليوم، بدا أكثر قناعة بأن التطور الديمقراطي الذي شهدته كينيا مؤخراً، جعل قوانينها أكثر شفافية، بحيث يستحيل على الحكومة الجديدة أن تغير القوانين نفسها، حتى وإن أفلحت في تغيير الأشياء الأخرى لصالح من ينحازون لها. بل إن جيلاً جديداً من المستثمرين الكينيين، أصبح أكثر قناعة بأن التحول الديمقراطي الذي حدث في بلادهم، ترك أثره الإيجابي على نظام الحكم وأسهم في تقويمه وإكسابه قدراً أكبر من الشفافية، خلال مدة وجيزة من الوقت. وبالنتيجة، فقد تجلى تحسن نظام الحكم، في تدفق رؤوس أموال أجنبية طائلة إلى السوق المحلي الكيني.
ومن بين من التقيتهم، الكاتبة الكينية "روز لوكالو أوينو" التي حدثتني عن زيارة قامت بها مؤخراً إلى منطقة "نجوتاني" الواقعة شرقي العاصمة نيروبي. وكان الهدف من زيارتها تلك، إجراء لقاءات صحفية لها علاقة بكتاب تهم بتأليفه، فضلاً عن مقابلة النساء المستثمرات في مجال تربية وتجارة الماعز. وقالت لي إن بائعات الماعز هناك، كن يضطررن إلى بيع أغنامهن بأسعار زهيدة لتجار يأتونهن من نيروبي على امتداد عدة سنوات، بسبب عدم معرفتهن بالأسعار في أسواق العاصمة. ولكن حين زارتهن الكاتبة، وجدت أن بحوزتهن مبالغ كبيرة من المال.. فكيف حدث ذلك؟ الإجابة أنهن قررن شراء هاتف نقال واحد يستخدمنه جماعياً، لغرض واحد فحسب، هو معرفة أسعار الماعز في أسواق نيروبي! وليس ذلك فحسب، بل لقد شرعت نساء أربعة عشرة قرية من هذه القرى، في إنشاء مصرف محدود للقروض، بما حققنه من أرباح مبيعاتهن.
غير أن أفريقيا لا تزال بحاجة إلى ما هو أكثر من الهواتف النقالة. وخلال رحلتي هذه، التقيت أحد أفضل الشباب الكينيين، ألا وهو العداء "بول ترغات"، الحائز على ميداليتين فضيتين في الأولمبياد العالمية لسباقات الماراثون. وقد فاز "ترغات" مؤخراً بعقد حكومي في استخدام الرياضة للترويج لأفكار الشفافية. وها هو يهم الآن بإطلاق سباق ماراثوني، يشارك فيه خيرة العدائين الكينيين، وهم يحملون شعلة على طول المسافة الممتدة من مومباسا إلى الحدود الأوغندية. يذكر أن هذه الشعلة ترمز إلى الشفافية ومحاربة الفساد السياسي.
وكل هذا مما يثير الإعجاب بقدرة الكينيين على إيجاد حلول وطنية لمشكلاتهم