الكفاح العربي/ سعاد جروس

كيف يمكن لأميركية مثل رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوزي أن تقرأ المنظر السوري وهي تقف عند ضريح يوحنا المعمدان داخل الجامع الأموي على بعد خطوات من مقام السيدة رقية, وبضعة أمتار عن كاتدرائيات الطوائف المسيحية المختلفة التي تتقاسم قلب دمشق مع المساجد والكنس اليهودية؟ بل كيف تقرأ على خلفية عمليات التفتيت الطائفي في العراق, هذا الموزاييك المتنوع والمتباين في دمشق القديمة كنموذج لمجتمع بلاد الشام من حلب إلى القدس؟!
المفارقة أن ابتسامات بيلوزي الوديعة, لم تمح من مخيلتنا تكشيرة مواطنتها «شمئرين» الساحرة كوندي وهي تقفز بين الحين والآخر إلى المنطقة لتقوم بجولاتها المظفرة لإبلاغ أوامر رئيسها بوش للزعماء المعتدلين العرب بغية وضع تعليماته «المبرمة» في حيز التنفيذ, والتي استحقت عليها قبلات حارة من معجبيها المخلصين. في حين لم تتمكن بيلوزي بكامل أناقتها وأنوثتها المقاومة لتقدم العمر, انتزاع مثيل لها, لا كماً ولا نوعاً, كل هذا الترحاب الحار الذي استقبلت به ولم تنل ضمة واحدة كتلك التي كانت من نصيب الآنسة رايس, ربما لأن الذين جاءت إليهم لاستطلاع رأيهم, كانوا واضحين في مطالبهم ويعرفون ما يريدونه منها, وليسوا بحاجة لتقبيل يدها والدعاء عليها بالكسر. وفي الواقع لم تظهر بيلوزي حاجتها إلى قبلات مغشوشة ولا محابية, وإنما جاءت لتفهم جوهر المشاكل في المنطقة, لا لتفرض حلولاً قسرية وإملاءات فوقية خدمة لمشروع توسعي تدفع الأمة الأميركية ثمنه ليس من أرواح جنودها في العراق وحسب, بل من سمعتها وصورتها التي جيشت إعلامها وثقافتها منذ ولادتها لجعلها الصورة النموذجية والمثال الديمقراطي الواجب احتذاؤه في العالم كله.
ولا بد من أن بيلوزي أدركت أنه لولا معارضتها لسياسة بوش في حربه على العراق, وفي موقفه من سوريا, لما استقبلت بحفاوة في الشارع الدمشقي, فتجولت في البزورية وأكلت حلوياتنا من التين المجفف, ونقولاتنا من الفستق, واشترت طاولة نرد معضمة, ووضعت غطاء الرأس وهي تطأ حرم الجامع الأموي كأي سائحة أجنبية مرحب بها, لأنها جاءت لتتعرف الى دمشق وأهلها حاملة بشائر السلام, ولم تأت حاملة إنذارات وتهديدات تبث في الأجواء نذر الشؤم والدمار.
هل فهمت بيلوزي جوهر المشكلة؟ لا ندري. لكن ما يجب أن تعرفه هو أن هذه المنطقة كسائر مناطق العالم تحوي أسباب تفجرها وعوامل تفتتها, بالمقدار ذاته الذي تحمل أسباب استقرارها وعوامل تقدمها, وأن فيها من الحب والمودة بقدر ما فيها من الحقد والكراهية, ومن يقرع الباب لا بد سيسمع الجواب من شعوب تستحق العيش سيدة في أوطانها, وتمارس السلام لا الموت في ظل حروب احتلالات قذرة قد تفرض عليها من الخارج لا من الداخل.
على كل حال, من الصعب الإجابة عن السؤال قبل ظهور نتائج زيارتها للمنطقة, لكن يمكن القول إن بيلوزي وإن كانت لا تملك القرار, إلا أنها تركت انطباعاً مطمئناً على جدوى عودة الحوار كإحدى وسائل التفاهم بين الدول, وإن ما لا يمكن انتزاعه أو فرضه بالقوة, يمكن للدبلوماسية الحاذقة أن تحققه بأقل قدر ممكن من الخسائر والتنازلات. وقديماً قال ارسطاطاليس للاسكندر: احفظ عني ثلاث خصال. قال وما هنّ؟ قال: صل عجلتك بتأنيك, وسطوتك بترفقك, وضرك بنفعك. قال: زدني. فقال: أنصر الحق على الهوى تملك الأرض ملك استعباد.
وإذا اعتبرنا حكمة ارسطاطاليس الوصفة الدبلوماسية المثالية لقادة الإمبراطوريات ذوي التطلعات التوسعية, فإنها أيضاَ معيار للباقة السياسية التي تجمع النقيضين بمقادير مدروسة لا يطغى احدهما على الآخر, بحيث يقوي كل نقيض نقيضه كشرط أساسي من شروط السلطة, إلا أن الشرط الأهم يبقى في نصرة الحق على الهوى, وهو ما نسفته إدارة بوش تحت عنوان عريض: «من ليس معنا فهو ضدنا», فكانت سنوات بوش الست كافية لجعل شعوب العالم المقهور تكره أميركا كلها, بعدما كانت الهجرة إليها حلماً أخضر, فالحرب على أفغانستان, وفتح صندوق باندورا في العراق, وزعزعة الوضع الداخلي في لبنان, وفرض الحصار على الفلسطينيين, ووضع الدول العربية تحت تهديد مزمن, ومن ثم شقها إلى فريقين معتدل ومتطرف؛ توجت كلها, بدعم لا محدود لحرب إسرائيلية متوحشة على لبنان... إلى آخره من سياسات عاثت في المنطقة العربية خراباً وفساداً دون أن تربح السيطرة عليها على الرغم من الاحتلال المباشر للعراق ونشر القواعد العسكرية في شتى أرجاء المنطقة. هذه السياسة لم تورث أميركا والشعب الأميركي سوى المزيد من النفور, وزلزلة منظومة الأفكار الأخلاقية للأمة الأميركية, لتدخلها في اختبار صعب, وهي ترى نفسها متورطة في حرب عبثية بلا حدود وبلا شرعية, انطلقت من مزاعم وأكاذيب بحجة محاربة الإرهاب, سرعان ما اكتشفت أنها لـ«تعزيز الإرهاب» حسب رسالة كتبها جندي أميركي لأهله نشرت في الـ«نيوزويك» اخيراً: «الشعارات السياسية النبيلة تبدو فارغة هنا, ومن نكاتنا المعروفة قولنا€إننا نقوم بدورنا في الحرب العالمية لتعزيز الإرهاب€ الأمور تبدو مختلفة جداً من هذا الجحيم».
فهل تستطيع بيلوزي من خلال التوازن السياسي والدبلوماسي الذي أظهرته أن تنتصر للحق على أهواء سياسة الصقور, وأن تكبح الهوس التوسعي وفتح حدود الجحيم العراقي لتشمل كل المنطقة؟
ليس لها ولنا سوى الدعاء عند ضريح النبي يحيى.