عقد ونصف انقضى ولم تعد بي الأيام إلى هنا، حيث مدينتي المفضلة. هذه الجميلة الفاتنة بهدوئها النادر وهي تستلقي وادعة بألقها الخاص على أكتاف تلال "بودا" الخضراء، مرسلة ً جسورها الشهيرة العديدة على صفحات الدانوب الأزرق لتعبر من علٍ ومن فوق تدفقه الأبدي إلى حيث شطرها الآخر "بشت"، حيث من هناك تبدأ منداحات سهل المجر العظيم. وبين شطريها هذين التي أخذت اسمها منهما، "بودا" و"بشت"، تربض جزيرة مارغت التليدة تطل بأشجارها المعمرة الباسقة من جوف النهر المنساب لتشطره بدورها، كما شطر هو المدينة، أو هي ترغمه طائعاً مختاراً على الالتفاف برشاقة من حولها، وكأنما جاء هذا المشهد المذهل لهذه الجزيرة الرائعة ليكمل روعة ذاك الانشطار الأول، الذي أعطى هذه العاصمة المجرية نكهتها الجغرافية التاريخية الخاصة، ومنحها اسمها الأبدي الفريد...

عدت أخيراً إلى بودابست بعد طول غياب، لكنني في هذه المرة، وإن لم افاجأ كمتتبع دؤوب لتحولات ما بعد نهاية الحرب الباردة، وجدت المدينة التي لاقتني غير تلك المدينة التي ودعتها آخر مرة، وخيّل إلي منذ أن وطئت قدماي أرض مطارها أن ناسها الذين لاقيتهم في هذه المرة هم غير أولئك الذين عهدتهم في تلك الأعوام الغابرة... أكل العقد والنصف من الزمن وشرب على شرف هذه المدينة، وأعمل جهده الجهيد والمؤثر في رسم بصماته على سحنات بشرها، لدرجة أن زوجتي البودابستية المولد والانتماء والهوى، التي رافقتني في رحلتي هذه، قد بدأت تُسرّ إلي معترفة بإحساسها، لأول مرة، بنوع من الغربة، وربما ببعض الوحشة، وأنها، وهي تجول في مسقط رأسها وملعب طفولتها ومرتع صباها، قد تحتاج إلى أيام لكي تتأقلم مع هذه المستجدات.

مالذي تغير؟!

لم تفقد بودابست جمالها وفتنتها، بل ربما ازدادت أناقةً عن ذي قبل، وإنما طلّقت ثلاثاً هدوئها السابق، حيث هدرت في شوارعها النظيفة المتسعة، الحافلة بإشارات المرور والمصابيح والمباني العتيقة المعاد ترميمها، جيوش لا تهدأ من السيارات وحافلات النقل العام بأنواعها، باصاتِ وتراماتٍ، إلى جانب ما يتراكض على مدار الساعة من تحت أقدامها، أي في جوف الأرض، وحتى من تحت الدانوب، من قطارات الأنفاق، المتكاثرة والمتطورة مع الزمن محطاتها المعاد ترميمها أو المستحدثة منها، ناهيك عن شقيقاتها من القطارات الأخرى المعتادة الزاحفة فوق الأرض قادمة من الأرياف والمدن الأخرى أو عائدة إليها... السيارات مختلفة الماركات والموديلات الجاثمة على الأرصفة أكثر بكثير، وبما لا يقاس، من تلك السيول المتحركة منها، حتى لكأنما المدينة الجميلة التي كانت وادعة كقرية كبيرة قد تحولت إلى موقف سيارات هائل، بينما الحافلات والقطارات ظلت كسابق عهدها لا تهدأ، وغدت المدينة بأسرها تغرق في موجة من حمى اللافتات الإعلانية المبهرجة النامّة عن وباء استهلاكي جائح يبدو أن لا شفاء منه، داهمها فالتف حول عنقها دون أن يخنقها بعد، لكنه جعل أهلها، الذين فقدوا إلى الأبد نوعاً من الإحساس بالأمان الاجتماعي كانوا قد اعتادوا عليه لعقود بعيد الحرب العالمية الثانية، أو الركون إلى ضمانات نهايات العمر التي وفرها لهم ما أصبح يعرف هنا ب"العهد البائد"، يركضون اليوم، في ظل هذه اللافتات، وعرق القلق الحياتي يتفصد من ملامحهم الواجمة المتعبة، أو قسماتهم الجادة أكثر من اللزوم، أو قل القلقة الفاقدة لذاك الإحساس... الديون تتراكم، لكن الاقتصاد ينمو ظاهرياً، دون أن يعني هذا النمو ثراءً هبط على المجريين، ولا انخفاضاً في نسبة ما يقارب الفقر المقيم بين غالبيتهم... هذا النمو الظاهري جلبته تلك التحولات الدراماتيكية التي قلبت كل المعايير المتبعة سابقاً رأساً على عقب، مستدعيةً الاستثمارات والشركات والمصارف الأجنبية التي زحفت إلى الأسواق المجرية قادمة من الشقيقات في الاتحاد الأوروبي، أو ذاك الجزء الثري الجشع من "القارة القديمة"، بالإضافة إلى تلك العابرة للقارات من الأمريكيات واليابانيات وسواها، بل وحتى الاستثمارات والبضائع الصينية المتكاثرة بشكل لافت تكاثر الصينيين في الأحياء البودابستية... هذه الأرتال القادمة ابتلعت البنى التحتية التي بيعت لها بيعة مالك مهاود، أو من يريد التخلص من إرث لا يريده، جالبة معها، أي هذه الأرتال، المزيد من السلع الاستهلاكية والترفيهية التي لا تخطر على بال، أو مؤسسةً للبنى الجديدة من ذات المردود المادي السريع والمجزي، كالهواتف النقالة مثلاً... نعم، هذه البنى تحسنت، وبما لا يقاس، ولكنها، في أغلبها، لم تعد مجرية بمعنى أنها لم تعد ملكيتها في أيدي المجريين. وحتى يدجّن المجريون استهلاكياً، ولتشجيعهم أكثر، وتوخياً للربح وبدافع المنافسة، على المسارعة للانسجام مع هذه الحمى القادمة، أصبح كل شيء يمكن الحصول عليه بالتقسيط، البيت، والسيارة، والأثاث، والملابس... كل شيء، بما يعني أن المصارف والشركات، أو تلك الاستثمارات الوافدة في أغلبها، وحدها المالكة لهذا الكل شيء المقسط وليس هؤلاء الزبائن من المواطنين... ولنضرب أمثلة:

قيل لي أن 90% من حركة البناء، حيث بدأت الأبراج الزجاجية تطل برأسها من بين مباني عهود أباطرة أسرة الهاببورخ إبان حقبة إمبراطورية النمسا والمجر، وتزحف البيوت القرميدية العصرية على تلال "بودا" مستبدلةً غاباتها الخضراء، التي افتقدت هذا العام ثلوجها التي تساقطت حتى في قلب جزيرة العرب، بأخرى اسمنتية هي ملك لتلك المصارف... وأن أراضي سهل المجر العظيم الزراعية قد بدأت تنتقل ملكياتها رويداً رويداً إلى المستثمرين من مواطني الشقيقات في الاتحاد الأوروبي الباحثين عن الربح المضمون القادمين من غرب القارة المتخم، بحيث ورث هؤلاء الرأسماليون من أعداء الأمس التعاونيات الزراعية الاشتراكية الشهيرة التي كانت ذات يوم من سمات أو مفاخر ذاك "العهد البائد"!

بل حتى شركة الطيران الوطنية "الماليف" بيعت مؤخراً لمستثمرين روساً... هذا إلى جانب ظاهرة تملك الأجانب لشقق بودابستية، وإن لم يقيموا في البلاد.... بالمناسبة قال لي البعض، أنه إبان الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، تدفق آلاف الإسرائيليين من دوي الأصول المجرية على بودابست ، تجنباً لصواريخ المقاومة اللبنانية التي انثالت على شمالي فلسطين المحتلة... لم يشعر هؤلاء بالغربة في هذه الديار التي لجؤوا إليها، كان لهم هنا بيوتهم التي عادوا إليها، والأقارب الذين هم في انتظارهم، بالإضافة إلى الضمان الصحي أو العلاج المجاني باعتبار أن أغلبهم ظل يحمل الجنسية المجرية. وما أن انقضت الحرب حتى عادوا من حيث أتوا إلى حيث البلاد التي يحتلونها.

لا يجادل أحد هنا في أن الانتاج المجري في حومة اجتياح تسونامي الانتاج الغربي للسوق المجرية قد تراجع، ومثل هذا التحول عادةً يخلق، وقد خلق بلا شك، طبقة أو أقلية من القطط السمان التي انتهزت حلول فوضى البدايات... كان أغلب هذه القطط، إما ممن يتسنى لهم التمول من الخارج كاليهود مثلاً، أو حرامية الحزب الحاكم إبان الحقبة الاشتراكية، أو سماسرة الاستثمارات الزاحفة ومقتنصي فرصها... هؤلاء كانوا هم المستفدون، أما الغالبية من عامة الناس فغرقت في وتيرة متزايدة من اللهاث لتأمين الحياة وتسديد الفواتير المستحقة، تبدأ اللهاث مع خيوط الفجر الأولى، حيث تفيق المدينة كعادتها، وتنتهي مع الغسق، حيث تنام بودابست كعادتها أيضاً مبكراً... هذا يعني أن طبقة صغار التجار التي كانت شبه المتنفذة سابقاً قد أصبحت فئراناً أما القطط السمان الشرهة هذه... ولنضرب مثلاً آخراً، كانت "الكوزرتات"، بمعنى البقاليات الصغيرة والمتوسطة، المنتشرة بين الأحياء البودابستية من سمات المدينة، لكن المراكز التجارية ذات الأحجام الأقرب إلى الأسطورية ابتلعتها اليوم، حيث بإمكان المستهلك، مثلاً، ركوب المترو أو الحافلة ليصل بعد دقائق إلى إحداها ليجول أو يسطاف لساعات فيما هو أشبه بنسخة حديثة من بازار شرقي متطور هائل الاتساع، تتشعب طرقاته وتتعدد طبقاته وتتفرع أقسامه ويكتظ بمعروضاته، فوق الأرض وتحتها، لينتقي منه ما شاء من بضائع متنقلاً على الأدراج الكهربائية، ويؤم فيه ما شاء من مختلف المقاهي والمطاعم ذات الوجبات السريعة والبطيئة، ويقارن وهو يجول فيه بين ما شاء من منتوجات عديد الشركات العالمية المختلفة... قيل لي أن واحداً من أشهر هذه البازارات البودابستية، ويطلق عليه بالانكليزية، التي زحفت لتجد مكانها لأول مرة كلغة أجنبية على الواجهات، "سيتي سنتر" بناه ويمتلكه رجل واحد...

هذه العولمة، كما هو حالها أينما حلت، جلبت معها، إلى جانب الضرائب الباهظة، الغش والتلاعب للالتفاف على وجوب دفعها، وحيث يتوازى ذلك بالضرورة مع التفاوت الفلكي بين مستوى قبيلة القطط السمان وسواد الغالبية اللاهثة وراء تأمين لقمة العيش في هذه اللجة الاستهلاكية الرهيبة، لا بد وأن يستشري الفساد، وتكثر السرقات، وتتصاعد نسب الجرائم، ويكثر الشحاذون والأفاقون، وتتفكك الأسر وتنحل الروابط الاجتماعية، وتتزعزع القيم التي درج الناس عليها... باختصار، هي أمور لم يعتدها المجريون، لكنهم اليوم يعانونها ويشتكون منها... لكن لا يعني هذا حنيناً يترجم نكوصاً إلى الماضي أو رفضاً للحاضر، وإنما ما يعادل مزيداً من التطلع الواهم لأن يصبحوا ذات يوم اقتصادياً وباقي الحقول الأخرى مثلهم مثل شركائهم في الجزء القديم من القارة من أعضاء أو متنفذي الاتحاد الأوروبي... أي ما يعني مزيداً من الليبرالية المنفلتة هروباً باتجاه الغوربة... لا أحد هنا يريد أن يفطن إلى أن أولئك المتخمون في الغرب الأوروبي لم يجنوا ما جنوا من ثروات تكدست عبر قرون إلا بعد طول تمكنهم من امتصاص دماء شعوب والقضاء على أمم إبان الحقبة الاستعمارية، وإن ما راكموه اليوم هو ما ورثوه أو بنوا عليه في تلك الحقبة المنصرمة... هم هنا لا يريدون أن يصدقوا ما قلته يوماً لصديقي المجري في البدايات: إنكم لن تفوزوا بوضع أكثر مما تعنيه أوضاع الحديقة الخلفية لأوروبا... بعد عقد ونصف وافقني هذا الصديق على ما لم يتفق معي عليه قبل هذا العقد والنصف!

في بودابست الجميلة المتغيرة أو المتحولة، أول ما تلاحظه تزايد نسبة العجزة والكهول ومتقدمي السن، والنقص البائن في الشباب، وربما الأكثر مما هو الطبيعي بالنسبة للأطفال، وازدياد عدد المجنسين من الأجانب، وفي مقدمتهم الصينيين، وفي آخرهم، في ظل أجواء الحرب الكونية الأمريكية على "الإرهاب"، يأتي بالطبع العرب المشكوك في أمرهم ومعهم المسلمين إجمالاً... كل ذلك مرده تناقص سكاني قديم ازداد اليوم، وهو على أية حال قد غدا سمة أوروبية عامة، وهو هنا بفعل تزايد تعقيدات الحياة وانصراف المجريين عن الإنجاب بل وحتى الزواج... التناقص يُدقّ ناقوس التحذير من خطره منذ عقود دون جدوى... في بودابست لا يلحظ الزائر سياسة خارجية مجرية، ربما كما كان هو الحال دائماً قبل نهاية الحرب الباردة وبعدها، السياسة الخارجية الموجودة اليوم تظل رهن مسار سرب الاتحاد الأوروبي، مع بعض الميل المنغص للاتحاد لصالح الإيحاءات الأمريكية... وهذه أمور، إلى جانب الصراعات السياسية الداخلية، والمواقف غير الصديقة ممن كانوا يعتبرون الأصدقاء القدامى للعرب من القضايا العربية اليوم، ستكون موضوع المقال القادم.