لا تظهر الحقيقة إلا عندما نحتاج شهادتها ومصداقيتها.. والهدف فقط لمنح أنفسنا وعملنا مزيداً من الفعالية والنجاح أمام الآخرين..

وهي تبقى محتجزة عندما نتوقع أن يشكل ظهورها مشكلة لدينا.. أو سبباً في فهم الأخر لنا بطريقة لا نريدها ولا نحبذها.. وما أكثر الحقائق (النائمة) في العمل الاقتصادي السوري..!!

تدرك الحكومة قبل القطاع الخاص أن معظم البيانات المتعلقة بالنشاط الاقتصادي التجاري والصناعي والخدمي للقطاع الخاص غير دقيقة.. وأحيانا هي بيانات بعيدة جداً عن الواقع ولأسباب كثيرة، إذ إن لكل رقم حكاية ولكل معلومة رواية، ولعل ما صرح به مؤخراً رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها عماد غرايوتي قبيل ساعات من افتتاح معرض موتكس للألبسة يكشف مرة أخرى هذه الحقيقة..

فالرقم الذي أعلنه غريواتي حول قيمة الصادرات السورية من الألبسة في العام الماضي والبالغ نحو ثلاثة مليارات دولار كان مفاجئاً، فالتباين والاختلاف وعدم دقة البيانات الواردة أو المقدمة من القطاع الخاص لم تكن لتجعل أحداً يتصور مثل هذا الفارق.. فما هي دقة هذا الرقم وصحته؟ ولماذا بخفي التاجر والصناعي السوري أرقام صادراته الحقيقية؟!

واقع مزيف

في البداية نورد التصريح الذي أدلى به غريواتي لوكالة الأنباء السورية سانا حرفياً: (إن الصادرات السورية من الغزل والنسيج والألبسة تجاوزت ثلاثة مليارات دولار خلال عام 2006 وذلك بسبب قدرة هذه المنتجات على المنافسة في السوق العالمية).

وأضاف في تصريح لوكالة سانا: (إن معرض موتكس أضحى من أكبر المعارض المتخصصة بعالم الأزياء والصناعات النسيجية ومستلزمات الإنتاج، كما يعد نافذة هامة للتسويق وتعريف المستهلكين والتجار والمستوردين بالسلع والبضائع السورية، حيث يتوقع أن يصل عدد زائري المعرض إلى ثلاثين ألف زائر من سوريا ودول عربية وأجنبية). وكشف أن المعرض سينتقل خارج سوريا وستكون البداية من مصر ومن ثم للدول الأخرى. ويشارك في معرض هذا العام الذي سيفتتح في 28 من الشهر الجاري في مدينة المعارض بدمشق نحو 350 شركة سورية متخصصة بالصناعات النسيجية من ألبسة رجالية ونسائية وأطفال ولانجري...

وسعياً نحو تحديد الفارق بين الرقم المعلن لصادرات سوريا من الغزل والنسيج والألبسة نفتح سجلات المكتب المركزي للإحصاء، حيث تشير بيانات المكتب الأخيرة والمتعلقة بالعام 2005 إلى أن صادرات سوريا من المنسوجات هو نحو 12.009 مليار ليرة سورية والصادرات من الملابس وتهيئة وصبغة الفراء (كما ورد في بنود التبادل التجاري) نحو 5.628 مليار ليرة سورية، فيما كانت بيانات عام 2004 ووفق ما قاله وزير الاقتصاد والتجارة في محاضرته الأخيرة خلال ندوة الثلاثاء الاقتصادي تشير إلى أن الصادرات السورية من الخيوط النسيجية ونسج وأصناف جاهزة غير مذكورة ولا داخلة في موضع آخر ومنتجات متصلة بها تبلغ 9.280 مليار ليرة بنسبة 4% من إجمالي الصادرات، وفيما يتعلق بصادرات أصناف الأديرة والألبسة وملحقاتها فهي تبلغ 4.894 مليار ليرة سورية بنسبة تبلغ نحو 2%، وألياف نسيجية وفضلاتها (غير معزولة أو مصنوعة) بلغت قيمة صادراتها خلال العام المذكور 8.559 مليار ليرة بنسبة 3%.. وبذلك يكون إجمالي الصادرات السورية من المنسوجات والألبسة في العام 2004 نحو 22.733 مليار ليرة سورية..

وطالما أن قيمة الصادرات السورية الواردة في بيانات المكتب المركزي للإحصاء تم احتسابها على أساس سعر صرف الدولار 48.65 ليرة، فإننا سوف نحسب قيمة الصادرات الواردة في تصريح السيد غرايوتي على هذا الأساس، فتكون القيمة بالليرات السورية نحو 145.950 مليار ليرة سورية.. وشتان ما بين الرقمين، فهناك فارق قدره 123.217 مليار ليرة سورية؟!، والاهم من ذلك أن الرقم الأخير يشكل 34.39% من قيمة الصادرات السورية خلال العام 2005 والبالغة نحو 424.300 مليار ليرة، وهذا ما يشكل خللاً كبيراً في طبيعة الصادرات التي تسيطر الصادرات النفطية على أكثر من 68% من تركيبتها، وبالتالي فكل الخطط والدراسات والقرارات التي تتخذ بناء على الأرقام الرسمية للميزان التجاري غير صحيحة وخاطئة أيضاً إذا ما صحت أرقام غرفة الصناعة؟!

من باب آخر!

أكثر ما يتبادر إلى الذهن في هذا الوضع سؤالان.. الأول ما مدى صحة أرقام اتحاد غرف الصناعة حول الصادرات السورية من الألبسة؟! والسؤال الثاني يتمحور حول السبب الذي يدفع المصدر إلى إخفاء الحجم الطبيعي لقيمة صادراته طالما أنه لا رسوم وضرائب تفرض على الصادرات؟!

في الإجابة على السؤال الأول تجب الإشارة إلى أن هناك في مختلف الأحوال تباينا في أرقام الصادرات عموما وهو واقع اعتدنا عليه، إنما مدى الوصول إلى رقم الثلاثة مليارات دولار فيجيب عليه عضو غرفة صناعة دمشق وريفها هيثم الحلبي الذي بدأ إجابته لنا بطرح حادثة جرت منذ أيام قليلة فقط، إذ إن أحد المصانع المحلية صدّر بضائع من منتجاته بشكل فعلي بنحو 190 ألف دولار بينما بياناته الرسمية كانت تحمل الرقم 26 ألف دولار، مضيفا أن هناك أمثلة كثيرة جداً في هذا المجال فدوماً الأرقام الواردة في البيانات لا تشكل سوى الربع أو الخمس في أحسن الأحوال.
ويعتبر الحلبي أن رقم الثلاثة مليارات دولار لصادرات سوريا من النسيج والألبسة هو رقم جيد ومقبول في ضوء التطور الكبير الذي شهده هذا القطاع الصناعي لاسيما الألبسة الجاهزة، ويجب أن يكون هناك جهود لزيادته مقارنة بالدول الأخرى كتركيا التي تبلغ صادراتها السنوية من المنسوجات والألبسة نحو 15 مليار دولار.. فسورية اليوم تحتل المرتبة الأولى عربياً في صناعة المنسوجات والألبسة الجاهزة.

إذاً.. وفي ظل تأكيد مصداقية الرقم ننتقل إلى السؤال الثاني عن سبب عدم إظهاره رسمياً، وهنا يوضح الحلبي ذلك بالقول إن السبب الرئيسي الذي يدفع بالمصدر إلى إخفاء الحجم الحقيقي لصادراته رغم عدم وجود أية رسوم أو ضرائب تفرض على نشاط التصدير هو استمرار العمل بتعهد إعادة قطع التصدير، والذي وجد في ظرف خاص مرت به البلاد سابقاً ولم يعد اليوم قائماً..

إلغاء تعهد إعادة قطع التصدير شكل خلال الفترة الماضية مادة للنقاش والمراسلات بين غرف الصناعة والتجارة وبين الحكومة والجهات العامة المعنية بالموضوع، ففي آخر كتاب وجهته غرفة صناعة دمشق بهذا الخصوص طلبت فيه من مصرف سوريا المركزي بأن يؤخذ تعهد بإعادة القطع من المصدر دون تحديد سقف وأن يعطى فترة سنة لإعادة القطع تحت طائلة تطبيق أشد العقوبات بحق الذين لا يعيدون القطع وحرمانهم من التصدير وفرض العقوبات عليهم، مؤكدة أن المصرف التجاري السوري لا يقدم أي تمويل أو خدمة للمصدر الذي يتحمل وحده كافة الأعباء إضافة إلى أن اتخاذ هذا الإجراء يشجع التصدير ويخفف الأعباء عن الصناعي.

واعتبرت الغرفة أن قرار مصرف سوريا المركزي والذي ألغى فيه تنظيم تعهد التصدير في بعض الحالات يدل على أن الحكومة ترى التريث في إلغاء هذا التعهد بشكل نهائي، وبما أن الحكومة ترى في الوضع الراهن الإبقاء على تعهد القطع فإن الغرفة أملت من المصرف المركزي النظر بالمقترح الذي قدمته الغرفة وضرورة العمل به.

كالسياحة..

تتشابه أسواق الألبسة السورية الخارجية مع أسواق السياحة السورية، إذ وكما يشير عضو غرفة صناعة دمشق وريفها هيثم الحلبي فإن 60-70% من صادرات الألبسة السورية تتوجه نحو أسواق الدول العربية، فيما النسبة المتبقية والبالغة مابين 30-40% تستهدف الأسواق الأوروبية، مشيراً إلى وجود نشاط متزايد لتزايد مكانة الألبسة في الأسواق الخارجية ومن ابرز معالم هذا النشاط معرض موتكس الذي تنظمه غرفتا تجارة وصناعة دمشق وانتقل مؤخراً من نطاقه المحلي إلى نطاق خارجي، حيث سينظم في تركيا وضمن أهم معرض تركي على مساحة قدرها ألف متر مربع..

وحول إمكانية زيادة نسبة تواجد الألبسة السورية في الأسواق الأوروبية يرى الصناعي جمال عرب الحلبي أن الألبسة السورية ماتزال متأخرة عن تطبيق المواصفات الفنية الشديدة التي تفرضها بعض الدول الأوروبية على الألبسة المستوردة، وهي تحتاج إلى مزيد من العمل ليكون باستطاعتها المنافسة وكسب أسواق جديدة وتدعيم موقفها في الأسواق القائمة.

من جهته يحدد هيثم الحلبي النقاط الأساسية التي تحتاجها صناعة الألبسة في سوريا بنقطتين الأولى وتعلق بضرورة توفير الغزول القطنية الممشطة التي تصدرها الشركات العامة رغم حاجة القطاع الخاص لها داخلياً وقد وعد وزير الصناعة خلال الاجتماع معه على حل هذه الإشكالية وتفهم حاجة المصانع الخاصة لذلك و(ونحن ننتظر تطبيق توجيهات السيد الوزير)، والناحية الثانية تتعلق بضرورة مواجهة الواقع الجديد الناجم عن سياسة فتح الأسواق وتحير التجارة، وهي مهمة متعلقة بالصناعي الذي يجب عليه أن يهتم بالنواحي التسويقية وضبط التكاليف وتخفيف الهدر لما لذلك من أثار إيجابية على انخفاض التكلفة وزيادة تنافسية السلعة السورية سعرياً.

ضبط وتخطيط

ليست فقط الملابس والمنسوجات هي من تضلل الميزان التجاري السوري، بل جميع السلع المصدرة، وخلال حديث سابق مع مدير المكتب المركزي للإحصاء كان الدكتور إبراهيم العلي يوصف هذه الحالة معلناً أن ضبطها والحد منها وصولاً إلى رقم دقيق وصحيح يحتاج لتعاون مختلف الجهات العامة والخاصة المعنية بالصادرات..

ولاشك فإن غاية الوصول لأرقام واضحة ودقيقة سوف ينعكس على كل المعطيات التي نتعامل بها اليوم، بدءاً من تركيبة الصادرات السورية وانتهاء بالقرارات والدراسات والخطط التي تبنى وتعد بناء على المتوفر حالياً من أرقام التبادل التجاري.. هي بكل تأكيد غير واقعية والمشكلة أننا نعرف أنها مزيفة ومع ذلك نتعامل بها بجدية!!