اليوم، وبعد مرور سنوات أربع على احتلال العراق، حيث وعدت الإدارة الأمريكية جيشها وجيوش حلفائها أنهم سيستقبلون من قبل الشعب العراقي بالأرز، لأنهم سينشرون الديمقراطية هناك.. مازال المحتل يستقبل يومياً بقذائف المقاومة العراقية والأعمال العسكرية التي أثبتت عدم مقدرته على إخمادها، رغم تغلغل مخابراته ومخابرات الموساد في الشارع العراقي ناشرين الفوضى بين الناس وناشطين تجاه إشعال فتنة مذهبية بين أفراد الشعب الواحد، ظناً منهم أن هذا يؤدي إلى إخماد المقاومة التي تزداد يوماً بعد يوم من خلال إيقاع العراقيين بعضهم بالبعض الآخر.. وإلى آخر ما هنالك من ممارسات شاهدناها في الأعوام السابقة، بدءاً بالقتل الجماعي ونسف المنازل وتصعيد هذا القتل وتعميمه، مروراً بالفضائح التي يندى لها جبين دولة الديمقراطية الأمريكية، كفضيحة أبو غريب وغيرها من الفضائح المتكررة يومياً.

بعد مؤتمر قمة بيروت الذي أعلن مبادرة الأمير عبد الله للسلام (الملك السعودي الآن) والتي كان الرد عليها اجتياح (أرئيل شارون) لجنين ونابلس وغيرهما من المدن الفلسطينية والتنكيل بسكانها وارتكاب جرائم القتل الجماعي وإحراق البيوت وتدميرها فوق أصحابها.. بعد هذا المؤتمر، زارتني في مجلة (أبيض وأسود) إحدى المسؤولات في السفارة الأمريكية بدمشق وبصحبتها موظف سوري يعمل في السفارة الأمريكية تولى عملية الترجمة بيننا، ومن جملة ما تحدثنا عنه عملية نشر الديمقراطية في الوطن العربي، وتحدثت الضيفة إلي عن دور الولايات المتحدة في المستقبل بعملية نشر تلك الديمقراطية، وبدت متأكدة بأن لا ديمقراطية في الشرق الأوسط إلا بالجهود الأمريكية، وسألتني: (هل تستطيع أن تنشر ما تشاء في هذه المجلة؟) فأجبتها: (طالما كان مدعوماً بالوثائق وضمن إطار القانون، أو يمثل رأياً فأتصور أنني أستطيع..) فأجابت: (أشك في ذلك)، فسألتها مباشرة: أترين في (أرئيل شارون رجل سلام ؟) فسألتني عن سبب السؤال! فأجبتها: (إن هذا تصريحاً للرئيس جورج بوش بعد أن اجتاح شارون جنين وقتل من قتل ودمّر ما دمر) فقالت: (قد يكون الرئيس قد أخطأ في التعبير..) فقلت: (إذاً تعالي لنتفق أن تكتبي رأيك هذا.. كونك تمثلين الدولة التي ستنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وأعدك بأن أنشر لك هذا الرأي مباشرة..) فاعتذرت عن الكتابة في هذا الموضوع؟!!..

حاولت الإفلات من طلبي بأن سألتني: (ما نتائج دخول جيش الولايات المتحدة إلى العراق فيما لو تم ذلك قريباً حسب ما يقال؟) أجبتها: (سيكون العراق أشد قسوة على جيشكم من فيتنام..) فأجابتني ساخرة: (أنت تتوهم، لقد سألت كثيراً هذا السؤال ولم يجبني بهذه الطريقة إلا اثنان، وأنت أحدهم.. ويبدو أنكما لا تعرفان حقيقة معاناة الشعب العراقي من صدام حسين ونظامه..) فقلت: (وأنت لا تعرفين الشارع العربي عموماً.. والعراقي خصوصاً.. ولذلك لم يعجبك جوابي..).

وللحقيقة لقد كنت في تلك الفترة أدرك مكونات الشعب العراقي كغيري من المقيمين من سكان المنطقة، وماذا يمكن أن يحصل فيما لو تم الغزو الأمريكي للعراق.. إلا أنه قد زاد في معرفتي للواقع العراقي وأفادني في ذلك اللقاءات التي أجرتها المجلة مع عدد غير قليل من السياسيين العرب حيث كنا نستطرد بالحديث عن العراق ومكوناته السياسية والطائفية والمذهبية وبالتفصيل الدقيق، حتى خلنا أن بعضهم قد أمضى عمره في العراق.. وكان حديث هؤلاء إحدى الدعائم التي اعتمدتها بإجابتي حول الفشل الأمريكي المتوقع فيما لو غزت قوات الولايات المتحدة العراق..

في الأسبوع الماضي وعند قيام السيدة (نانسي بيلوسي) بزيارة إلى الشرق الأوسط ويوم حضورها إلى سوريا، اتصل بي مسؤول من التلفزيون الألماني الرسمي (دويتشه فيله) عبر البريد الإلكتروني، ثم هاتفياً وطلب مني رأياً حول زيارة رئيسة البرلمان الأمريكي لسوريا وهل ستؤدي إلى إعادة محادثات السلام المتوقفة بين سوريا وإسرائيل وعلل سبب اتصاله بي كون (أبيض وأسود) مجلة خاصة لا تمثل رأياً حكومياً..

لخصت له رأيي بأن السيدة (بيلوسي) فيما لو كانت مدركة الحقائق والظروف المحيطة بالصراع العربي الإسرائيلي وتصرفت من منطق محايد لأدركت بأن عملية السلام يجب أن تستمر (كحزمة واحدة) في المنطقة (سوريا، فلسطين، لبنان) لأن تحقيق هذا السلام سيكون هو الحل لجميع مشكلات المنطقة، وبالتالي أتصور أن زيارتها قد تحقق ذلك فيما لو صرحت القيادة الإسرائيلية عن استعدادها للانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 (كتأكيد على حسن نواياها)..

وتساءلت أثناء إبداء الرأي: (ماذا يعني أن يقول أولمرت إن إسرائيل لن تهاجم سوريا في الصيف؟.. هل يعني ذلك أنها ستهاجمها شتاء؟) وعلى ما يبدو فإن إجابتي لم تعجب التلفزيون الرسمي الألماني، الذي بدا وكأنه (يريد أن أقول ما يريد هو قوله) ولذلك تم استبعادها وعدم بثها.. مع التذكير بأن المستشارة الألمانية كانت قد صرحت عن تحيزها لإسرائيل قبل يومين فقط وتحدثت عن المحرقة وعن ضميرها الألماني المعذب.

قد يتساءل البعض: لماذا أسرد كل ما سبق؟.. وجوابي البسيط هو: أن تجربتنا كمجلة مع بعض الأشخاص (كالذين تحدثت عنهم، أو مع غيرهم) رغم بساطتها أكدت لنا بأن الحق في العالم مازال للقوة، وهو مبني على المنطق وديمقراطية الحوار بالمقياس الغربي الذي تسوده المصالح التي تقلب الحقائق وتدجنها، وإلا لماذا قتل قابيل هابيل؟.. هكذا منذ القِدم؟.. وحتى الآن مازال يقتل تحت مسميات كثيرة؟.. فهل تصور العرب أن ذلك سيتغير؟