الاتحاد / باتريك سيل

يمر الرئيس الأميركي جورج بوش بوقت عصيب هذه الأيام، بسبب التحديات والانتقادات الساخرة اللاذعة، التي يواجهها داخلياً وخارجياً. ويعجز وصف بوش بأنه "بطة عرجاء"، عن تصوير عمق المأزق الذي انزلق إليه، بعد أن هجره أصدقاؤه، بينما تكالب الأعداء للانقضاض عليه والنيل منه. ثم إن الوصف نفسه، يقف عاجزاً عن توصيف ما شاع من اعتقاد عام، بأنه أسوأ رئيس على امتداد التاريخ الأميركي الحديث. ولا تزال الحرب التي شنها على العراق تلقي بظلالها وتداعياتها الوخيمة على الأشهر القليلة المتبقية له من ولايته الثانية. كيف لا وقد استنزفت تلك المغامرة العسكرية الرعناء، من الأرواح البشرية والموارد المالية ما يفوق الوصف والخيال سلفاً، مع عدم بروز أي مؤشرات على قرب نهايتها؟ والمشكلة أن هذه هي الحرب التي لا يمكن لأميركا الفوز بها، كما لا يمكنها أيضاً المغامرة بخسارتها، بسبب العواقب المدمرة التي ستطال صورة أميركا في وجه العالم كله، فيما لو لحقت بها هزيمة استراتيجية عسكرية. وعلى رغم قسوة هذا الاحتمال الأخير، فإن المصير الأكثر ترجيحاً الذي تواجهه إدارة بوش الحالية، والعقبة الرئيسية التي يواجها بوش الآن، هي أن الكونجرس الذي أحكم "الديمقراطيون" سيطرتهم عليه منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التكميلية النصفية في شهر نوفمبر المنصرم، قد بدأ بتحدي الرئيس ومواجهته فيما يتعلق بالسياسات الخارجية الأميركية. ولعل أقرب مثال لهذا التحدي، الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب، "نانسي بيلوسي" إلى دمشق الأسبوع الماضي، على رغم أن سوريا هي الدولة العربية التي سعى الرئيس بوش إلى عزلها ومعاقبتها، تحت تأثير الضغط المستمر في هذا الاتجاه من قبل تل أبيب. والأسوأ من ذلك أن الكونجرس يسعى الآن لحرمانه من مبلغ إضافي يصل إلى 124 مليار دولار، وهو المبلغ الذي ينوي إنفاقه على خطته الجديدة الرامية إلى إرسال 20 ألف جندي إضافي إلى العراق. وقد اشترط الكونجرس للموافقة على هذه الميزانية الإضافية، تحديد جدول زمني واضح وقاطع لبدء انسحاب كافة القوات الأميركية المرابطة في العراق. وبينما حدد مجلس "الشيوخ" عاماً لبدء تنفيذ هذا الانسحاب، فقد اقترح المجلس منح الرئيس مهلة تصل إلى سبعة عشر شهراً من تاريخه. وعلى رغم ضرورة المساومة للتوفيق ما بين هذين الموقفين داخل مجلسي "الشيوخ" والنواب، فإن الرسالة التي يبعث بها كلا الموقفين جد صريحة وواضحة: ليس في مقدور الكونجرس السماح بتمويل وجود عسكري إلى أجل غير مُسمى في العراق.
بل لقد اتخذ هذا الصراع بين الكونجرس والبيت الأبيض، بعداً شخصياً، بسبب إصرار "الديمقراطيين" على فرض استقالة شخصيتين لا تزالان تمثلان الذراع اليمنى التي يعتمد عليها الرئيس بوش، وتعدان أكثر الشخصيات قرباً له. أولهما كبير مساعديه "كارل روف" الذي أطلق عليه لقب "عقل بوش"، وثانيهما، ممثل الادعاء العام "ألبرتو جونزاليس" الذي سبق له أن تولى منصب المستشار العام للرئيس بوش، يوم أن كان حاكماً لولاية تكساس. هذا وينحدر "جونزاليس" من عائلة مكسيكية مهاجرة، ويُقال إنه هو الذي وفر المسوغات القانونية التي سمح بموجبها بممارسة الجنود الأميركيين تعذيب سجناء الحرب على الإرهاب، على نحو ما حدث في سجن "أبوغريب" وغيره من السجون. وإلى ذلك فقد أعلن "ماثيو داود"، وهو أحد الاستراتيجيين الرئيسيين المخططين لحملة بوش الانتخابية لعام 2004، أن كافة أوهامه السابقة عن الرئيس بوش وحربه على الإرهاب، قد تبددت أمام عينيه الآن، وأنه بدأ يرى الحقائق عارية وواضحة كما هي. وسعياً منهم للتخفيف من أثر هذه الضربة الصاعقة للرئيس بوش، بادر الناطقون الرسميون باسمه إلى القول إن ما قاله "داود" لا يعدو كونه تعبيراً عن حالة إحباط يمر بها، بسبب احتمال إرسال ابنه قريباً إلى العراق.
وأكثر من خسارته للكونجرس، فقد خسر بوش دعم وثقة غالبية الأميركيين، التي أصبحت أكثر رغبة وحماساً من أي وقت مضى، لوضع حد للحرب، وعودة الجنود إلى وطنهم وديارهم. وقد عبرت صحيفة "نيويورك تايمز" عن وجهة النظر هذه بقولها في إحدى افتتاحياتها في الأسبوع الماضي: "يبدو بوش أكثر عزلة وتمسكاً بنسخة وهمية لعراق لا وجود له في أرض الواقع". أما على الصعيد الخارجي، فليس أدل على هذه العزلة، من خسارته لتوني بلير، حليفه البريطاني الأقوى على الإطلاق. وقد تمكن بلير من النأي ببلاده عن سياسات بوش الخارجية الكارثية، وإن كان قد فعل ذلك ببطء ومثابرة في ذات الوقت. وبالنتيجة، فها هو انسحاب القوات البريطانية من العراق، يمضي على قدم وساق، ولن يطول اليوم الذي يصبح فيه الوجود العسكري البريطاني، أثراً بعد عين. وليس ذلك فحسب، بل إن الحوار الذي أجراه بلير مع قادة طهران، بشأن حل أزمة اعتقال البحَّارة البريطانيين الخمسة عشر، جاء هو الآخر، على قدر كبير من التعارض مع نبرة بوش العدوانية الثابتة إزاء طهران.
أما في العالم العربي، فقد بات بوش مواجهاً بخطر خسارة حليف استراتيجي له في المنطقة، هو العاهل السعودي الملك عبدالله، الذي وصف الاحتلال الأميركي للعراق بـ"اللاشرعية". وقد كان الملك عبدالله محقاً في غضبته هذه، طالما أن واشنطن هي التي تقوض كل الجهود والمساعي التي يبذلها لحل النزاعات الداخلية العربية-العربية. فواشنطن وإسرائيل هما اللتان تعارضان إلى الآن الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، التي أسفر عنها "اتفاق مكة"، الذي قاد عملية الوساطة فيه، الملك عبدالله. فما تريده واشنطن وتل أبيب هو أن يهزم "أبو مازن" حركة "حماس" وليس أن يدخل معها في شراكة سياسية. والشيء نفسه تمارسه واشنطن وتل أبيب، إزاء مبادرات العاهل السعودي، الرامية إلى جمع الشمل اللبناني والتوصل إلى مصالحة سياسية هناك. وموقف العاصمتين المتحالفتين، هو أن يسحق "حزب الله"، لا أن يكون طرفاً في العملية السياسية اللبنانية. وفي الوقت الذي حاور فيه العاهل السعودي، الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وصافح فيه الرئيس السوري بشار الأسد، فإن الذي تراه كل من واشنطن وتل أبيب، هو أن تظل طهران ودمشق، ذات "العفريت الشرير" الذي يجب حبسه في قمقم الدول الراعية للإرهاب، أو "محور الشر" الذي يجب ألا يفلت منه أبداً.
هذا ويساور المملكة العربية السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي قلق آخر، مصدره سعي واشنطن لتأليب هذه الدول على جارتها طهران، متناسية في ذلك عمق العلاقات الأسرية والتجارية التي تربط ما بين هذه الدول وإيران. ومما يزيد الطين بلة في العلاقات الأميركية- الخليجية، وقف تنفيذ صفقة بيع أسلحة أميركية للمملكة العربية السعودية ودول الخليج، تتراوح قيمتها بين 5 إلى 10 مليارات دولار، بسبب اعتراضات تل أبيب عليها. ووفقاً للتقارير الصحفية الصادرة، فقد اعترضت تل أبيب على بيع واشنطن للمملكة طائرات مزودة بأسلحة تدقيق إصابة الهدف، في مقابل حثها لها على رفع الدعم العسكري الأميركي لقوات دفاع إسرائيل، من 2.4 مليار إلى 3 مليارات دولار!
وإذا كان "المحافظون الجدد" الموالون لحزب "الليكود" الإسرائيلي، هم من أحاط ببوش، إحاطة السوار بالمعصم، وأملوا عليه حربه على العراق وتبني سياسات معادية للعرب في مجملها، فهل له أن يحرر نفسه نوعاً ما من أسرهم، لينقذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى له من ولايته الرئاسية هذه؟