مسألة سقوط بغداد لم تعد مرتبطة بعد أربع سنوات مع الجدل الدولي حول أسلحة الدمار الشامل، أو طبيعة الاستراتيجية الأمريكية التي انتقلت نحو رسم "شكل" امبرطوري خلف أزمات وحروب متلاحقة، فما حدث مع سقوط بغداد كان انتهاء لأوهام "التوازن الإقليمي"، وتكسرا لـ"أوهامنا" أيضا حول قدرتنا على تجاوز كل مسائل الحداثة، والاكتفاء بالتعامل مع أشكال المؤسسات التي استمرت منذ عهد الاستقلال.

كان سقوط بغداد رؤية لفشل "الدولة" التي تشتت بشكل سريع باتجاه "الطوائف" والعشائر، دون ان ننسى أن احتلال بغداد كان أيضا مزودا بـ"تقنيات فكرية" قدمت "التعددية" الثقافية وكأنها انقسام داخلي، وأظهرت الديمقراطية على شاكلة التعداد السكاني وتوزيع السلطة حسب "الأغلبية"، فما حدث يوم سقوط بغداد لم يكن انتهاء لنظام سياسي، لأن "الدولة" العراقية انهارت بشكل كامل وباتجاهين:

  الأول اجرائي بفعل ما قامت به قوات الاحتلال من حل الجيش والشرطة، ثم إقرار قانون "اجتثاث" البعث الذي جعل معظم موظفي الدولة "ملاحقين".

  أما الثاني فكان "اجتماعي" وعبّر عن تراكم "الأخطاء" الفكرية، حيث شهدنا انزياحا واضحا باتجاه "الأحزاب الدينية"، وانكفاء سمات الانفتاح الاجتماعي نتيجة انهيار الدولة باتجاه الروابط "التراثية" إن صح التعبير.
ورغم أن "قرار" اسقاط الدولة كان أمريكيا، لكن تفتتها السريع يرجع إلى طبيعة الوعي الاجتماعي بها، واختلاطها مع مفاهيم "السلطة" و "الحزب"، بحيث يبدو النظام السياسي وكأنه المعبر الوحيد عن كافة التشكيلات الخاصة بـ"الدولة".

عمليا فإن ما حدث قبل أربع سنوات انعكس بشكل سريع إقليميا، فنحن نشهد اختبارا واضحا على الصعيد الاجتماعي تجاه كل مفاهيم الحداثة، بما فيها "الدولة"، وتم بلورة جملة من "الاتجاهات" حول هذه المواضيع ظهرت بقوة مع "حرب تموز" من العام الماضي، ليتم تحوير الصراع مع إسرائيل باتجاه مذهبي. وهذا التفكير أثر بوضوح حتى على قراءة استراتيجية المنطقة.

بعد سقوط بغداد تم توزيع مناطق التوتر من جديد، فـ"ارتحل" الخطر شرقا نحو إيران، لكن هذا الأمر لم يكن يعني عداء مع "الدولة" في إيران، لأن الغرض الأساسي منه هو إحالة الصراع نحو التوزع الاجتماعي، فالموقف تجاه طهران كان يعني بالدرجة الأولى البحث داخل مجتمعاتنا عن عوامل التشتت المذهبي، والموقف من الإرهاب والتشدد لم يكن يعني أيضا سوى محاصرة "حماس" و "الجهاد" و "حزب الله"، بدلا من البحث عن الصيغ الحداثية في السياسية، فمحاربة التنظيمات السابقة لم يقف عائقا دون دعم الأحزاب الدينية في العراق أو حتى مصر، أو مناصرة النظم السياسية الداعمة أساسا للاتجاهات التراثية.

ربما تغيرت خارطة المنطقة بعد سقوط بغداد، لكن الأخطر من هذا التبدل هو مساحات الشك التي زرعتها الحرب بقيم "الدولة" التي تم تكريسها على امنتداد قرن كامل فكريا وعمليا، بينما أعاد الاحتلال "أوهام" التراث "والصراع الافتراضي" داخل مساحة التاريخ.