الحقائق اللندنية / د. حياة الحويك عطية

لكأن الـ "واشنطن بوست" كانت تضع الخطوط العريضة لزيارة نانسي بيلوسي للمنطقة عندما أوردت في مقالها الرئيسي عبارات ثلاثاً تحدد السياسة الأمريكية العاقلة في المنطقة بعد أن أكدت أن زيادة عديد قوات الاحتلال في العراق لن يحل المشكلة: المشاركة الدبلوماسية والسياسية، النهج الشامل والمبادرة الدبلوماسية إزاء قضايا ودول الشرق الأوسط، إشراك جيران العراق مع مجموعة دولية للضغط باتجاه المصالحة الوطنية.

فهل يعني ذلك أن هناك أمريكتين أم أمريكا واحدة، خاصة مع تصويت الكونجرس بمجلسيه لمصلحة انسحاب قوات الاحتلال من العراق؟ أم أن الأصح هو القول إن هناك رؤيتين مختلفتين للسياسة الأمريكية وللمصلحة الأمريكية في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط تحديدا؟ رؤيتان ليستا وليدتي اللحظة، فنانسي بيلوسي، الإيطالية الأصل، الكاثوليكية المذهب، المنتمية إلى سان فرانسيسكو ولاية المثقفين والمتحررين واليسار، هي غير جورج بوش المنتمي إلى المسيحيين المتصهينين وإلى ولاية تكساس ولوبيهات النفط والسلاح. ولذلك وقفت بيلوسي بحدة، ومنذ البدء، ضد الحرب على العراق، وبنت دعايتها الانتخابية، في المعركة التي أوصلتها إلى الموقع الثالث في الدولة، على متابعة معارضتها لهذه الحرب وللاحتلال، ومعارضتها لحرب أخرى ضد إيران وتبنيها أسلوب التفاوض لحل النزاعات. موقف لا يتفق عليه جميع الديمقراطيين، كما لا يختلف معه جميع الجمهوريين، وإن كانت ثمة أكثرية تطبع هذا المعسكر أم ذاك، بدليل التصويت في الكونجرس ومجلس الشيوخ، وبدليل أنه عندما كانت بيلوسي تصرخ ضد الاحتلال كانت هيلاري كلينتون الديمقراطية الأخرى، سيناتور نيويورك، تزور جيش الاحتلال في أفغانستان والعراق، وتعتذر عن تقبيلها لسهى عرفات، تمهيدا لتحضير معركتها لرئاسة الدولة. كما جاء في ما بعد تقرير بيكر هاملتون ليؤكد حقيقة توزع الاصطفاف داخل المعسكرين الجمهوري والديمقراطي.

إذن صحيح أن هناك أمريكتين، بمعنى تبني أسلوبين مختلفين لتحقيق المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة. من دون أن يحق للمتفائلين أن يمتد بهم الشطط الخيالي، حد تخيل انه يمكن للاختلاف هذا أن يتجاوز الأسلوب إلى الجوهر. مما يذكر بعبارة لكولن باول برر بها معارضته للحرب على العراق عام 1991: "لا شك أننا نحتاج للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط وخاصة منطقة الخليج والعراق في مواجهتنا المقبلة مع أوروبا والصين، لكن الأفضل أن نحقق ذلك بالأساليب السياسية لا بالحرب، لأن من شأن الأسلوب العسكري أن يفرز ثلاثة مخاطر: تنامي الكراهية للولايات المتحدة، تفجر المقاومة، ونمو التيارات الإسلامية الأصولية في محيط ما زال تسيطر عليه آيات الله".

وعندما سئل عن سبب تراجعه عن موقفه ومساهمته في الحرب أجاب: "أنا جندي (كان يومها رئيساً للأركان) والرئيس قد علق هدفه على راداره". بيلوسي لم تكن يوما جندية مع بوش الأب أو بوش الابن، وهي ابنة الخط الديمقراطي الذي يميل دائما إلى لغة التفاوض، التي لا تغيب عنها الضغوطات التي غالبا ما تؤدي إلى تحقيق الهدف من دون ان تسهم في تنامي الكراهية، وتصعيد المقاومة، وتوسيع الفجوة مع الإسلام. وعليه فهي لم تأت إلى دمشق لتخالف سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، بل لتكملها، لتهيئ لمرحلة جديدة فيها وفق رؤية محددة لمصلحة بلادها، رؤية باتت تتبناها أكثرية الأمريكيين، ليس فقط من الديمقراطيين بل وبعض الجمهوريين أيضا. لأنها تجمع من رفضوا الحرب منذ الأساس، إلى من يرون أنه آن الأوان لقطف الحلو من ثمار الحرب، وترك المر لأهله. لتقشير قرص الصبار، وترصيف القلب اللذيذ في الصحن الأمريكي، مع توزيع بعضه على الصينيين والروس والأوروبيين لإسكاتهم، ورمي القشور الشائكة كلها للعراقيين والعرب. من هنا فإن الخلاف مع إدارة بوش تركز منذ البداية حول رأيين: واحد، هو المذكور أعلاه، والذي يرفض الحرب كليا، ويرى أن مصلحة الولايات المتحدة هي في الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط بالأساليب الدبلوماسية والتفاوضية، وبمساعدة "إسرائيل"، ورأي رأى أنه لم يكن هناك بد من الحرب لكسر شوكة العراق، مما يكفي لبث الرعب في ركب العرب عامة، ولكن هاهي الحرب قد آتت أكلها فتحقق تدمير العراق: جيشا أولا، ثم ثقافة واقتصادا ومجتمعا، دولة بكل ما يعنيه مفهوم الدولة. تحققت إزالة أي خطر يواجه "إسرائيل"، تحققت سيطرة الجيش الأمريكي على المنطقة، وتحقق قانون النفط الذي وضع آخر لمساته بول وولفويتز (مهندس الحرب)، لذلك حان أوان الانسحاب العسكري وضرب الحديد وهو حام أي إطلاق العملية الدبلوماسية عبر العمليات التفاوضية على مختلف الجبهات بعد أن تم إنهاكها، في ما يشبه تماما قاعدة معروفة في لعبة الملاكمة تقضي بأن ينهك الملاكم الذكي خصمه ويستنفد قوته قبل توجيه الضربة القاضية إليه.

من هنا، فإن الزيارة إلى "إسرائيل" وفلسطين وسوريا هي الصفحة الافتتاحية في هذا الخط، الذي سيترك جورج بوش وإدارته يكملون المهمة القذرة بكل ما تمتلكه القوة العظمى من قوة عسكرية فتدمر وتكسر وترهق وتخنق المعارضين في خانة التهديد، حتى إذا جاء الديمقراطيون أوقفوا العملية، ليبدؤوا غسل القذارة عن الوجه الأمريكي، وامتصاص الكراهية ببعض القرارات الشكلية التي لن تمس المصالح الأمريكية، وصولا إلى الجلوس على طاولات تنتهي بإنجازات دبلوماسية كبيرة تسجل لهم، سواء على مستوى القضية العراقية، أم الفلسطينية بكل أبعادها، أم الإيرانية. ففي الأولى، يعمدون إلى تحقيق انسحاب لقوات الاحتلال، ولكن مع بقاء حكومة مؤيدة لهم، مع بقاء القواعد العسكرية، مع بقاء قانون النفط، ومع التعهد بعدم العودة إلى حلم الجيش القادر على إيذاء "إسرائيل"، أو لغة الخطاب القومي المعادي لـ "إسرائيل" وأمريكا. وهل كان يراد من الحرب غير ذلك؟

أما على الصعيد الفلسطيني فإن التوصل إلى مرحلة جديدة من الحل مع السلطة الوطنية الفلسطينية، ومع سوريا، ومن ثم مع لبنان، سيؤمن انهيار جميع السدود أمام "إسرائيل"، وتحقق حلم شيمون بيريز في هيمنتها الاقتصادية والثقافية على منطقة منهكة، كما يحقق حلم الشركات متعددة الجنسيات بدخول ساحات سوق واستثمار شاسعة مكتظة، الجيوستراتيجي الأساسي في مواجهة التهديد الصيني والروسي. إضافة إلى كونها الدولة التي أغلق قانون المقاطعة الأمريكي المعروف بقانون اماتو، أبوابها أمام المستثمرين الأمريكيين.

وإذا كان لا يمكن لإستراتيجية كهذه ان تتجاهل سوريا فإن بيلوسي استبقت زيارتها لدمشق بزيارة "إسرائيل" حيث وجهت رسالة قوية بقولها: إن الديمقراطيين والجمهوريين يختلفون على كل شيء إلا على موضوع "إسرائيل" واعتبرت قيام "إسرائيل" أهم إنجاز في القرن العشرين. رسالة ثلاثية الأبعاد: تطمين لـ "إسرائيل"، وتطمين للوبي اليهودي الأمريكي قبل سنتين من المعركة الرئاسية، وتنبيه لسوريا بأن بوابة المصالحة مع أمريكا هي القبول بالحل مع "إسرائيل". وإذا كان ثمة من يقول إنها ليست بحاجة إلى ذلك لأن السوريين أعلنوا مرارا استعدادهم لذلك، فإن الرد يكمن في أن مضمون الحل هو أهم من الحل نفسه، ومسيرات المفاوضات وسياقاتها ونتائجها هي أهم من مجرد حصولها. لقد مضى الزمن السعيد الذي كانت "إسرائيل" تحلم فيه بمجرد جلوس العرب معها إلى طاولة، مما يعني الاعتراف بها، وجاء اليوم الذي أصبح المطلوب استجداءها هي لتشريف الطاولة والاعتراف بالعرب.

وإذا كان لا يزال أمامنا ان نتوقع استمرار إدارة بوش في الأعمال العسكرية وربما تكثيفها من الآن وحتى نهاية ولايته، بشكل متواز مع محاولات دبلوماسية لتحقيق إنجازات ولو شكلية، للتغطية على الفشل (أول من يساعده فيها العرب أنفسهم) فإن ثمة نقاطاً تطل برأسها بوضوح في هذا السياق وأهمها العمل على جعل العرب يقرون التطبيع قبل التوقيع، ويشطبون حق العودة للاجئين، وعلى تفعيل عملية سياسية تؤدي إلى إرساء حكومة مؤيدة للولايات المتحدة في العراق، تضمن عدم التراجع عن أي مكسب أمريكي "إسرائيلي". فهل يمكن لسوريا أن تصمد في وجه المخطط الحالي وأن تتهيأ للمرحلة المقبلة؟

عنصر واحد يقلب المعادلة، فيما لو أراد المقبلون على طاولات التفاوض مد اليد لنانسي بيلوسي، من باب البراغماتية السياسية، هو توفر أوراق قوة في يد المفاوض السوري والفلسطيني واللبناني والعراقي، وأول هذه الأوراق وأهمها هي ورقة المقاومة. وإذ نقول ورقة فلا نعني أبدا المساومة التي تؤدي إلى رمي الورقة بعد استعمالها بل نعني التنسيق الكامل بين قوى الدبلوماسية وقوى المقاومة على الساحة لتحصيل أفضل النتائج وتحصين الجبهات جميعا.

الأمريكيون في مأزق كبير في العراق، والسيدة الثالثة في الهرم الأمريكي لم تأت إلا لحله، لذلك لا يجوز أن يقدم لها الحل مجانياً، ولا يجوز بالتالي أن يكون الثمن إلا اعتماد حق المقاومة العراقية الوطنية في تحرير بلادها، والأمريكيون و"الإسرائيليون" في لبنان في مأزق، ولا يجوز إنقاذهم منه إلا بإعطاء المقاومة والقوى الوطنية دورها في إدارة البلاد، مع التنسيق الحتمي مع من يريد الحفاظ على الثوابت الوطنية من الفلسطينيين.