5/4/2007

وجهه ليس ملكه. وهو منقّط بحروق دقيقة نتيجة حادث انفجار قنبلة مصنوعة محلياً, يبدو مألوفاً للمشاهدين الفلسطينيين مثلما يبدو مألوفاً لجيرانهم الإسرائيليين. بالنسبة للفلسطينيين , هو مقاتل جسور, بطل سري, ملاحق و لا يمكن القبض عليه أبداً. أما بالنسبة للإسرائيليين فهو إرهابي مكانه السجن أو العقاب الشرس.

زكريا زبيدي, 31 عاماً, قائد فصائل شهداء الأقصى في جنين,شمال الضفة الغربية, لايجد نفسه في أحد هذين التعريفيين. فبعد خمسة أعوام من قيادة الميليشبا المنبثقة من فتح, حزب الرئيس الفلسطيني محمود عباس, يحاول الأب الشاب لطفلين الانعزال. إنه يؤكد أن كل ما يحلم به هو تخزين مسدسه الفضي الذي يخفيه وراء سرواله ومتابعة دراسته في علم الاجتماع بسلام والتي كان قد بدأها مؤخراً. يقول :" لقد فقدت الانتفاضة روحها, إنها فشل كبير. لقد آن الأوان لأخذ هدنة."

إنه يستقبل في بيت صغير على قمة مخيم لاجئي جنين, حيث ولد. باحة الدار تشرف على الحارات التي كانت في نيسان 2002 مسرحاً للعملية الانتقامية الإسرائيلية المسماة "المتراس". عشر أيام من القتال دخلت في التاريخ الفلسطيني. والمساكن الأربعمائة التي هدمت ثم أعيد إعمارها بفضل أموال الشيخ زايد تتميّز عن بقية الأكواخ المتداعية بلون جدرانها الحليبي.

يرتدي زكريا زبيدي جينزاً وت- شيرت وجاكيتاً قصيراً لكل المناسبات. آثار الحرق على وجهه تشبه الشامات. قبضة كفّه صريحة وابتسامته مرّحبة. " الإرهابي الأول" كما يصفه عملاء التساهال له هيئة شبابية مثله مثل الآخرين.

لكن كلماته هي كلمات رجل وصل إلى نهاية المطاف. هارب نجا من خمس محاولات اغتيال, ينام بعين واحدة منذ خمس سنين ويغير مأواه كل يوم تقريباً. يقول وهو يجلس على كرسي من البلاستيك في الباحة , واضعاً هاتفيه الجوالين على طاولة منخفضة:" أشعر بأني متعب وضعيف. الجدار وعنف الجيش الإسرائيلي خنقا الانتفاضة. وكذلك فإن عدم كفاءة حكامنّا وفشلهم في تشكيل استراتيجية حقيقية لعب دوراً. بدلاَ من المقاومة ضد الاحتلال , تمضي فتح وحماس الوقت في الصراع. كل الدماء التي بذلناها ذهبت سدىً."

يتحدث زكريا عن خبرة. لقد مات أبوه, وهو مقاتل من فتح, في السجن من سرطان لم يعالج كمايجب. وقتلت أمه برصاصة عندما كانت تراقب حملة للجيش من نافذة بيتها, في شباط 2002. وقتل أحد أخوته وهو أيضاً مقاتل في شهداء الأقصى خلال الهجوم الكبير لنيسان 2002.

في تلك الحقبة نجا هو بأعجوبة. فقد اقتربت بلدوزرات الهدم من المقر الذي لجأ إليه مع عدد من رفقاء السلاح. وخرجوا بالدور لتسليم أنفسهم للجنود الإسرائيليين , بالثيلب الداخلية وهو الشكل المطلوب لكيلا يتم إطلاق النار عليهم . ولكن زبيدي يومها , ولم يكن سوى تابع شاب لزياد عمرو , قرّر البقاء. وكان فعلاً اضطرارياً أملاه الموقف... بسبب اللباس. يقول :" لم أكن ألبس ثيلباً داخلية . وفضّلت الموت على الخروج عارياً أمام سكان المخيم." وكان الرهان رابحاً : فقد هوى المنزل وبقي أحد الجدران واقفاً ليحميه. وبعد ست أيام من اليأس , خرج من مكمنه البيتوني.

هذه الحلقة التراجيكوميدية أدّت إلى ترقيته. الموقوفون كانوا مقتنعين أنه هلك في عملية هدم الملجأ واعتبروه أحد أبطال المقاومة. خلال عدة أسابيع , اصبح اسمه على رأس قائمة الناشطين المطلوبين من قبل الجيش الإسرائيلي. وبدأت الشائعات تسري في المخيم وكبرت هالته, وأخذ الإعلام يلاحق أخباره. في نهاية 2002 وبعد إطلاق صاروخ على علاء صباغ الذي خلف زياد عمرو والذي قتل خلال عملية " المتراس" , أصبح زكريا بشكل طبيعي قائداً للكتائب.

وفي هذا المركز الذي لم يكن يتوقعه مارس سلوكاً غير مروّض. بدأ رجاله يطلقون النار على الطرق التي يستخدمها المستوطنون. رفض الانضمام للهدنة التي أعلنتها فتح وحماس في ربيع 2003. وتتهمه إسرائيل بقيادة هجوم انتحاري تم تعطيله. ويجيب الصحافيين الإسرائيليين بعبرية فصيحة اكتسبها من سنوات السجن خلال الانتفاضة الأولى :" انتقام بسيط" .

ولكن زبيدي , مثله مثل كل الأيدي الصغيرة لحرب الحجارة , لديه حسابات يصفّيها مع النظام الفلسطيني. يقول:" تطور عملية السلام؟ لم أعِ أبداً ماذا يعني ذلك . عندما كان أبناء النخبة يتابعون دراستهم في الخارج, كنت أنا أتنقّل في ورشات البناء في حيفا. ثم تطوّعت للعمل كشرطي. وعندما كنت أحاول فرض النظام , كانت المستعمرات اليهودية حول جنين تتوسع كل يوم."

وهكذا فإن هذا الخائب الأمل من أوسلو ارتجل أفعالاً في جنين. اختطف الحاكم, أحرق مكاتبه, سرق مكاتب الخدمات السريّة وجرؤ حتى على إطلاق النار على قافلة وزير الداخلية الفلسطيني. ولتبرير أفعاله , اتّهم ضحاياه بالتعاون مع الأعداء, ولامهم لأنهم لم يدفعوا لرجاله ولم يحترموا ذكرى الشهداء.

زكريا ناكر الجميل يعي تماماً أن وضعه كعدو رقم واحد لإسرائيل يجعله منزّه في عيون شعبه. ويؤكد الحاكم قدورة موسى هذا الرأي بقوله :" إنه مثل ابني. لا أستطيع رميه في السجن , لأنه في غضون ساعة واحدة سوف يأتي الجنود الإسرائيليون ليوقفونه."

آخر مواجهة مع الإسرائيليين تعود إلى تموز عام 2006. كان قائد الكتائب يشارك في مأتم في المخيم. حيث توقف أحد قوات الأمن الخاصة الإسرائيلية أمام خيمة العزاء وفتح النار. وخرج زبيدي زاحفاً تحت القصف. بركة وجرأة لم تترك أي شك ببطولته في كل المخيم. يعلّق :" لقد تعلّمت اليوغا في السجن. وتعلّمت ألاّ أهاب الموت. قدرتي على التركيز تسمح لي بالتفكير بسرعة في مواجهة الخطر."

في الماضي , كان زكريا يفكر بالانتقام. واليوم لم يعد العمل العسكري على رأس أولوياته. بعد أن درس العام الماضي التوجيهية ( البكالوريا الفلسطينية) , تسجّل في جامعة القدس الحرّة لدراسة علم الاجتماع. ويشرح موقفه قائلاً :" لأنني أعيش وسط شعبي وأرى معاناته , فإن المشاكل الاجتماعية تهمني." هذا الرأس المحروق من جنين ليس طالباً مثالياً . فخوفاً من تعريض حياة زملائه للخطر , يكتفي بحضور الامتحانات ولا يشارك في الدوام.

يقول زكريا:" إن ضغط إسرائيل وتقصيرنا أحالوا الانتفاضة إلى أبعادها العسكرية. وهذا خطأ. الانتفاضة يجب أيضاً أن تكون شعبية وثقافية. ليس للمقاتل أي أمل بالنجاح عندما يعمل وحده. " وهذه البداية جاءت نتيجة لقائين.

الأول تالي فهيمة, وهي إسرائيلية جاءت إلى جنين لتكون "درعاً بشرياً" له ودفعت ثمن جرأتها عامين ونصف من السجن. والثاني جوليانو مير- خاميس , ممثل إسرائيلي, قرّر إعادة إحياء " مسرح الحرية " الذي افتتحته أمه آرنا في مخيم اللاجئين في التسعينات. يقول جوليانو:" أعرف زكريا منذ كان مراهقاً . أنا متأثر بقدرته على الاعتراف بفشل الانتفاضة. لقد فهم أنه من المهم خلق قيم جديدة وتطوير مفهوم الحرية والانعتاق من الوجه المعتم للوطنية وكذلك اختيار أشكال من المقاومة البديلة. ولذا قرّرت إحياء مسرح الحرية."

وتظهر نقطة سوداء في سماء جنين , ونسمع الهدير الذي يميز الهيليكوبتر الإسرائيلية أباتشي. يرن الهاتف المحمول. يؤكد أحد المراقبين ظهور تهديد. ينهض زكريا زبيدي ويلتصق بالجدار . ويقول وهو يتابع الطائرة بنظره :" نعم , أحب أن أنضمّ إلى مسرح الحرية , ولم لا أصعد إلى الحلبة أيضاً ."

هذه الهداية ليست هي الأولوية اليوم. الآن مازال عليه الهرب والاختباء , الاحتياط وركوب المخاطر. واقعاً في فخ هالته , صار المدافع عن جنين اليوم مدافعاً فقط عن حياته.

بنجامين بارت