تمر الذكرى الرابعة للاحتلال اليوم، والمشهد العراقي يفرض على المنطقة ملامح مستقبلها، إن لم نقل، إنه يعيد تركيب اللوحة السياسية العالمية من جديد. فعملية "الصدمة والترويع" البوشية لم تكن سوى الإسم الكريه لواحدة من أقذر عمليات "السطو المسلح" المغلفة زيفاً وتضليلاً بمفاهيم "الديمقراطية وحقوق الإنسان" التي ابتذلتها عصابات "المحافظين الجدد" المعولمة. غاص العراقيون في العام المنصرم من عمر الغزو، وسط بركة من الدماء.

فقد استطاع حملة مشاعل الحرية المحمولة على صواريخ "كروز"، والمتوهجة بـ"الفوسفورالأبيض"، تحقيق معجزات جديدة، عبر إقامة رافد جديد يضاف إلى دجلة والفرات ويحمل اسم " نهر الدم ". وتشييد سور السيارات العظيم الذي يمتد أمام محطات الوقود في بلد يملك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم. وفي انهاء مشكلة السكن، حيث هرب مايزيد على مليوني مواطن خارج العراق، إضافة لأكثر من مليونين آخرين تشردوا داخل بلدهم، بحثاً عن الآمان المفقود، الذي أدى إلى ارتفاع أعداد القتلى _المتوسط الشهري المتداول خمسة آلاف_بحسب مانشرته مجلة " لانسيت " الطبية البريطانية، والذي توافق مع نتائج الدراسة الصادرة عن جامعة جون هوبكنز الأمريكية قبل أكثر من عام " يناير 2006" التي تُقدر عددهم بأكثر من 655 ألف عراقي. هذه الأرقام التي يُشكك بعض الباحثين العراقيين بدقتها، لأنها دون الأرقام الحقيقية، التي تجاوزت مع انتهاء العام الرابع للغزو، المليون ومائتي ألف مواطن. لقد حولت مافيات المتاجرة بـ "حقوق الانسان"، العراق إلى سجن كبير، فالمعتقلات الرهيبة " أكثر من ألفي سجن ومركز اعتقال" التي تنتشر في طول البلاد وعرضها، تخفي وراء قضبانها آلاف النساء والأطفال، وعشرات الآلاف من الرجال، الذين يفقدون حياتهم نتيجة المعاملة الوحشية. وهو ما أدى إلى زيادة أعداد الأطفال اليتامى بحسب آخر دراسة صادرة عن منظمة "اليونيسيف" التابعة للأمم المتحدة في بغداد. إذ تقدر الدراسة أن عدد هؤلاء الأطفال يتراوح مابين 4 – 5 ملايين في ظل الاحتلال، بينما لم يتجاوز خلال حقبة التسعينات المليون بقليل. كما أن مذبحة العلماء والأكاديميين العراقيين مستمرة بدون توقف، وهو مااشارت اليه "اللجنة الدولية للتضامن مع الأساتذة العراقيين" التي تتواجد مقراتها في "باريس" و "جنيف". فقد أكدت على أن 232 من الأساتذة قد قتلوا(الأسماء موجودة وموثقة) كما اختفى 56 في ظروف غامضة، وتشرد ثلاثة آلاف خارج العراق، مما انعكس ذلك على الجامعات والمراكز التعليمية. إن عمليات الاغتيال التي استهدفت مئات العلماء البارزين في شتى مجالات العلوم، خاصة الفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا، أكدت على وجود عناصر"الموساد" خلفها، بهدف حرمان الأمة من خيرة مبدعيها.

لقد شهد العام المنصرم من عمر الاحتلال، تسعيراً لحمى التصفيات الداخلية، التي استهدفت النسيج المجتمعي. فالطائفية السياسية التي يحرص الاحتلال وعملاؤه على تغذيتها دائماً، استطاعت أن تقوم بما تعجز عنه الصواريخ والدبابات. فقد نفذت ميليشات الأحزاب المذهبية، مجازر متنقلة ومتبادلة في أكثر من مكان، وتدثرت غالبيتها بملابس حكومية رسمية، تتوزع مابين قوات الحرس والشرطة. فقد أقدمت هذه القوى الموغلة في انغلاقها ودمويتها على تدمير الأماكن المقدسة "حسينيات، مساجد، مراقد، كنائس"، لكن النصيب الأكبر كان خلال العام الفائت من نصيب المساجد. فقد أشارت الاحصائيات إلى تدمير أكثر من 190 منها، واغتيال 260 إماماً وخطيباً.

في ظل هذه الأوضاع، سجلت حكومة "المنطقة الخضراء" نقاطاً جديدة في سجل انتهاكات حقوق الإنسان، عبر جلسات "المحكمة" المهزلة، التي لم تتوقف عند النطق بـ"الأحكام"، بل وتنفيذ
اغتيال قادة النظام الشرعي، في واحدة من أقسى اللحظات _ توقيتاً وتنفيذاً_ لدى الشعب والأمة.
بالإضافة إلى الكشف عن حالات اغتصاب للنساء ، قامت بها عناصر من قوات الحكومة، مقتدية بممارسات "أسيادهم" من جيش الاحتلال، الذين اغتصبوا الفتاة القاصر" عبير" في المحمودية، ثم قتلوها وأحرقوها مع عائلتها. إن المجازر المتدحرجة في عموم المدن والبلدات العراقية لاتستطيع بضعة أوراق تسجيلها، لكن الأكثر بشاعة كانت قد شهدته مدينة "الاسحاقي" في مارس/آذار، ومدينة "حديثة" في نوفمبر/تشرين الثاني في 2006 . كما أن حملات التفتيش والدهم النازية التي تمارسها قوات الحكومة المدعومة بالعسكريين الأمريكيين والبريطانيين، خلفت مآسي انسانية لاتوصف . بلدة "الدور" تتعرض منذ أسابيع للعزل عن العالم، بحجة البحث عن المقاومين. إن هذا السلوك الاجرامي ليس بجديد، فالعديد من مدن وبلدات العراق، تعرفت على هذه الهمجية عدة مرات. وللتذكير وليس للحصر فإن" الموصل، الفلوجة، ديالى، بهرز، سامراء، القائم، تلعفر، تكريت، الرمادي، راوة، المحمودية، اللطيفية، العمارة، الحلة " مازالت تتعرض بين وقت وآخر لمثل هذه الحملات. أما "بغداد " فما زالت تعيش محنة وكابوس خطة "فرض القانون" الأمنية التي ينفذها أكثر من ثمانين ألفاً من قوات الاحتلال والحكومة المملوكية. هذه الخطة، التي سماها بموضوعية، الشيخ الجليل "حارث الضاري" بـ "المسرحية الهزلية" لم تجلب للعاصمة إلاّ المداهمات والحواجز والأزمات الحادة، والمزيد من العمليات الباسلة التي نفذتها المقاومة الوطنية، التي أكدت حضورها اليومي بسلسلة من المواجهات، تجلت بشكل واضح، بتعبيرها عن نفسها خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده " كي مون " أمين عام الأمم المتحدة في المنطقة الخضراء. إن ماتعيشه "الديوانية " منذ عدة أيام، في ظلال مجازر" النسر الأسود "، يشير إلى توسيع دائرة الاجتياحات الدموية، كجزء من خطة تطويق المدن واستباحتها.

لقد أدى الاحتلال إلى فقدان العراق لثروته الثقافية _ هجرة مبدعيه أو اغتيالهم، إتلاف الكتب وحرقها كما حصل في شارع المتنبي العريق_ ونهب كنوزه النفطية. إذ تؤكد التقارير البحثية أن مايقارب من 800 ألف برميل تُصدر يومياً، لايُعرف إلى أين تذهب عوائدها، إضافة إلى عدم وجود عددات تحدد كميات النفط المصدر في العديد من مراكز التصريف. ولهذا فإن محاولات الاحتلال، عبرالحكومة المملوكية، تمرير" قانون النفط والغاز العراقي"الذي ينهي عصر السيطرة الوطنية على هذه الثروة، ويعيدها_ كما كانت قبل التأميم_ إلى نهب الشركات الامبريالية. ويترافق كل ذلك بحالة من "الفساد " لاسابق لها في التاريخ السياسي / الاداري، حسب ماتعلنه منظمة" الشفافية الدولية" من أن مايحصل في العراق يعتبر" أكبر فضيحة فساد في التاريخ". الحاكم الأمريكي السابق" بريمر" استحق وبجدارة، الوصف الذي أطلقه عليه العراقيون " لص بغداد "!إذ أهدر ونهب مايقارب التسعة مليارات من الدولارات.كما أن قائمة الوزراء والمسؤولين المتعاقبين في حكومات المنطقة الخضراء، تطول لتتسع للمئات من" الفئران السمان"، الذين أعلنت "هيئة النزاهة العامة في العراق" عن أسمائهم.
أمام كل هذه الافرازات التي ارتبطت بالغزو، تصاعدت حالة الرفض الشعبي للمحتلين وعملائهم. بل ان كل الاستبيانات التي أجرتها بعض المراكز البحثية أكدت أن أكثر من 80% من المستطلعة آراؤهم أكدوا رفضهم للوجود الأجنبي، وطالبوا بمغادرته فوراً لبلدهم. لقد شكلت هذه الحالة الوطنية، التربة التي ترعرت ونمت فيها المقاومة، والبيئة التي تلبي للمقاومين احتياجاتهم من الدعم والاسناد. لقد شهد العام الفائت تحولات نوعية في عمليات المواجهة مع الغزاة. ففي بضعة أسابيع، تمكنت مجموعات متخصصة من اسقاط عشرة طائرات عسكرية(سمتية وتجسسية) بأساليب وطرق جديدة أربكت خبراء البنتاغون. بالاضافة للازدياد الواضح في العمليات التي تشهدها مناطق" الفرات الأوسط" ومدن المحافظات الجنوبية. لقد فرضت استمرارية المقاومة المسلحة، وتطور اساليبها، على قادة العدو الاعتراف بالحقائق. الجنرال "باري ماكفري" المحاضر في أهم الأكاديميات العسكرية الأمريكية، أعلن في تقرير نُشر يوم الثلاثاء3 نيسان الحالي حسب ماأوردته صحيفة"الجمهورية " المصرية، بأن(القوات الأمريكية تتعرض لنحو 2900 هجوم بقنابل موجهة في الشهر الواحد) لكنه لم يذكر عدد الهجمات التي تتم بأسلحة أخرى. كما أكد "ماكفري"_ الذي كان قائداً لفرقة المشاة 24 أثناء حرب الخليج الثانية_(إن مايزيد من التهديدات التي تواجهها القوات الأمريكية، أن عدد رجال المقاومة قد تجاوز 100 ألف مقاتل، مؤكداً أنه لايوجد بينهم أكثر من خمسمائة مقاتل أجنبي) مضيفاً بأن المقاومة العراقية هي( كفاح داخلي من حيث القيادة والمقاتلين والتمويل والتسليح، فكلها عناصر يتم تعبئتها من داخل العراق).

انعكس هذا التطور الكمي والنوعي في عمل المقاومة على تزايد عدد النعوش المحمولة إلى الولايات المتحدة. ففي آخر الاحصائيات الرسمية لعدد القتلى نجد 3276 قتيلاً!. لكن الأرقام التي أعلنها مركز قدامى المحاربين في مدينة "مورجنتاو" يشير إلى أن عدد القتلى الأمريكيين قد بلغ حتى بداية عام 2007 أكثر من 28000، و48733 جريح خرجوا من الخدمة، بالإضافة إلى 12422 عسكري أصيبوا باضطراب عقلي وعصبي، علماً بأن هذه الأرقام المعلنة من المركز، لاتتضمن قتلى وجرحى شركات الأمن الخاصة، والمرتزقة. وكل هذه الأرقام تقترب مماتنشره قوى المقاومة الوطنية عن خسائر العدو . إذ تؤكد المصادر الاعلامية للمقاومة، بأن عدد القتلى الاجمالي للعسكريين _ حملة الجنسية والكرت الأخضر أو الموعودين بالجنسية_إضافة للمتعاقدين والمرتزقة يقارب 40000 ، كما أن الجرحى الذين تتم معالجتهم في العراق، والمركز الطبي الأمريكي في ألمانيا " لاندشتول" يزيد عن مائة ألف جريح .

ترافق الاستنزاف البشري المتصاعد، مع تكاليف مالية فاقت الـ 400 مليار دولار، استناداً على الدراسات الاقتصادية التحليلية التي تقوم بها لجان متخصصة بالكونغرس. وبناءً على الاعتمادات المالية المطلوبة، فإن التكلفة ستتجاوز الـ 500 مليار دولار بنهاية عام 2007، مما يجعلها تقترب من تكاليف حرب فييتنام التي دامت 12 عام. لكن ماأظهرته دراسة صدرت مؤخراً، أعدتها الباحثة في جامعة هارفارد " ليندا بيلمز" أشارت إلى أن تكلفة الرعاية الطبية للمحاربين الذين أصيبوا في حربي العراق وافغانستان ستحتاج ما بين 350 _ 700 مليار دولار، وهو مايضيف عبئاً جديداً على المواطن الأمريكي. لقد أدت الخسائر المتتالية على أكثر من صعيد، والمتزامنة مع انكشاف سلسلة الأكاذيب التي روجتها عصابة المحافظين الجدد، عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ولعلاقته بتنظيم "القاعدة"، عن تعرية المنظومة الأيديولوجية/الأخلاقيةالتي حاولت الاختباء خلفها إدارة البيت الأبيض. إن صدى مايحصل في العراق، رددته شوارع أكثرمن مائة وخمسين بلدة ومدينة أمريكية. فمئات الآلاف من المتظاهرين المعادين للحرب رفعوا شعارات " أعيدوا أولادنا الآن " و" دم أولادنا أهم من النفط ". جاءت نتائج انتخابات الكونغرس النصفية لتضيف صفعة جديدة لحاكم البيت الأبيض وحزبه، الذي حاول امتصاص الرفض الشعبي، بالتضحية ببعض الرموز"الكريهة" من أمثال "رامسفيلد وبولتون" . لكن كل هذه الاجراءات التجميلية لم تفلح في اعادة شعبية الرئيس، التي دلت آخر استطلاعات الرأي على أنها في أدنى مستوياتها.

يدخل العراق العام الخامس من الاحتلال، وهو يعاني من أزمات عديدة. فالبنية التحتية التي تم تدميرها بتخطيط مسبق من أجل إعادة العراق الى السنة " صفر"، لم تزل غائبة عن الوجود. بالرغم من برامج "إعادة اعمار العراق" التي كانت الواجهة المزيفة لـ " شرعنة " النهب .إن سياسة افقار الشعب وتجويعه، ارتدّت على المحتل وعملائه، لأنها وفرت للمقاومة المسلحة، محرضات الانتقام من الغزاة. وأمام فشل كل الحملات العسكرية الوحشية، الهادفة سحق التشكيلات القتالية للمقاومة، تلجأ الحكومة المملوكية إلى خطط جديدة لعزل المدن والأحياء وتطويقها، من خلال بناء الجدران والحواجز الاسمنتية بين الأحياء والبيوت، في استعارة ذات دلالة، لجدار الفصل والضم العنصري الصهيوني.

لقد أثبتت المقاومة خلال السنوات الأربع الماضية، قدرتها ليس على الاستمرار فقط، بل وعلى توسيع مناطق تحركها، وتطوير أدواتها وأساليبها. ولهذا فإن المهمة الأبرز في برنامج العمل الوطني، تكمن في رفع درجة التنسيق بين كافة كتائب ومنظمات العمل المسلح، وتوسيع وتنظيم قاعدتها الجماهيرية، من أجل مراقبة وضبط الحركة السياسية والميدانية للمقاتلين، لقطع الطريق على محاولات الأعداء الهادفة تفتيت وحدة أداة المواجهة، عبر اشغالها بمعارك جانبية تصب في خدمة المحتل.

9 / 4 / 2007