تحت عباءة التحالف الاستراتيجي مع إيران ، تبدي سوريا قدرا ملحوظا من "التململ" والقلق الباعث على التميّز عن السياسة الإيرانية ، وتظهر الدبلوماسية السورية حرصا لافتا على الاحتفاظ "بمسافة ما" عن طهران ، والاستمرار بإرسال الإشارات المتواترة الدالة على توفر النيّة والاستعداد لتوسيع هذه المسافة أو تقليصها وفقا لمقتضيات العلاقة بين دمشق واللاعبين الكبار إقليميا ودوليا.

ثمة إشارات عديدة دالة على هذا المنحى العميق في السياسة السورية "الجارية" ، فدمشق "المتورطة" في حلف استراتيجي مع طهران ، تحتفظ في الوقت ذاته ، بشبكة علاقات وطيدة للغاية مع تركيا ، تبادل اقتصادي وتجاري ، تعاون أمني شامل وملاحقات مشتركة لمقاتلي حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي السورية وعلى المثلث الحدودي ، سد مشترك على نهر العاصي يرسّم "واقعيا" الحدود مع تركيا بما يضمن بقاء لواء الإسكندرون جزءا من بلاد الأناضول ، لقاءات على مائدة واحدة في ديفيد سترفيلد وخليل زاد على مائدة مؤتمر جوار العراق في بغداد ، وقريبا وليد المعلم مع السيدة رايس في شرم الشيخ على المائدة ذاتها وتحت اليافطة ذاتها ، استقبال "ملوكي" للسيدة نانسي بيلوسي ولموسم حجيج من أعضاء الكونغرس لسوريا ، أنباء عن رغبة سوريا بالانضمام للرباعية العربية ، وجهود مكثفة للمصالحة مع الرياض بعد تنقية الأجواء مع القاهرة إثر خطاب "أنصاف الرجال" ، مساعدة "مقدرة" لجعل لقاء مشعل عباس في دمشق توطئة وتمهيدا للنجاح في مكة ، ومبادرة تلو الأخرى باتجاه إسرائيل لاستئناف مفاوضات السلام من أي نقطة وفي أي وقت ومن دون قيد أو شرط.

دمشق ، مباشرة أو عبر الوسطاء الكثر ، لا تكف عن إرسال البرقيات لواشنطن أساسا: نحن قوة استقرار في المنطقة ، وبيدنا أن نجعل حياة الأمريكيين في العراق أكثر سهولة ، وبيدنا إغلاق جبهة الجنوب اللبناني وإعادة إنتاج تجربة الهدوء على جبهة الجولان لبنانيا ، وبيدنا المساعدة في الحرب على الإرهاب وقد جربتم حجم الدعم الذي يمكن الحصول عليه من سوريا.
بعد سنوات من العزلة المؤذية لسوريا ، والتهديد المباشر لأمن النظام ومستقبله ومصائره ، أدركت القيادة أن واشنطن وبالأخص تل أبيب لا ترغبان في إعادة إنتاج التجربة العراقية سوريا ، فتغيير النظام بقوة التدخل الخارجي قد يجعل من سوريا عراقا جديدا ، ولكنه أشد خطرا على إسرائيل ، والفوضى غير البناءة في سوريا يمكن أن تفضي إلى تعميم تجربة المقاومة اللبنانية سوريا بدل تعميم تجربة الهدوء الجولاني لبنانيا ، وها هي القيادة السورية ترقب بمزيد من السعادة رحيل خصومها الكبار ، أو قرب رحيلهم عن مواقعهم ومكاتبهم: شيراك ، خصمها الشخصي الألد ، مشغول في "ضبضبة" مقتنياته الشخصية المبعثرة في قصر الإليزيه ، وطوني بلير يستعد لمغادرة 10 داوننغ ستريت مجللا بالفشل من تجربة الغزو في العراق إلى قضية البحارة الخمسة عشر ، وجورج بوش ما عاد قادرا على منع "تفلّت" الجمهوريين من حزبه على زعامته ، خصوصا بعد إن اهتزت هذه الزعامة إثر الانتخابات الأخيرة ، أما أولمرت فينتظره تقرير فينوغراد مثلما تنتظر دمشق تقرير براميرتس ، فيما استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي وضعته في أسفل خانات "الشعبية" في تاريخ رؤساء حكومات إسرائيل منذ إنشائها قبل ستة عقود.

المؤكد أن دمشق اليوم في وضع أفضل مما كانت عليه قبل عام أو عامين ، بيد أن من المرجح أن لا تتمكن في المدى المنظور من الخروج تماما ونهائيا من عنق الزجاجة الذي يعتصرها منذ اغتيال الحريري بل ومنذ التمديد للحود ، والكثير من أوراق اللعبة السورية والإقليمية ، يمكن أن يلعب لصالح دمشق أو بخلاف ما تشتهيه سفنها ، والأمر برمته رهن بقدرة الدبلوماسية السورية على التصرف بحنكة وفي الوقت المناسب ، فغياب الأولى وسوء تقدير الثانية ، جعل التاسع من نيسان "التجربة المرة" لنظام البعث في العراق ، فهل تعلم البعث في سوريا الدرس جيدا ، أم أن التاريخ سيعيد نفسه على شكل مهزلة هذه المرة ، بعد أن اكتملت المأساة في بلاد الرافدين؟

مصادر
الدستور (الأردن)