كان السيناريو الذي يتحدث عن ضربة سورية خاطفة محدودة في هضبة الجولان، خلال ليلة شتوية عاصفة، بهدف تحريك العملية السياسية ، في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات ـ كابوساً شبه دائم يُلازم قيادة المنطقة الشمالية وقائدها في اللواء يوسي بيلد. واليوم، يعترف بيلد بأن الجيش لم يكن يمتلك في ذلك الحين رداً جيداً على سيناريو كهذا

منذ أواسط التسعينيات فقد سيناريو ضربة سرية خاطفة في الجولان مكانته المرتفعة في قائمة الاحتمالات، في تقارير الجيش الاستخبارية. وبشكل عام، إن احتمال شن عملية عسكرية سورية لإجبار إسرائيل على الشروع في المفاوضات بشأن هضبة الجولان تحت الشروط السورية، سيناريو يفتقر إلى الإمكانات؛ فقد أدرك النظام السوري أن أي تحرش عسكري في هضبة الجولان سيصطدم برد إسرائيلي مكثَّف، وخصوصاً ضد النظام نفسه.
فقدت دولة إسرائيل هذه الهراوة الردعية في الصيف الأخير، بعدما دفعت خلال الحرب في لبنان ثمناً بشرياً ومعنوياً فادحاً، وضعف أحد رؤوس أموالها الهامة من أجل وجودها: عامل الردع. وتضاءلت اليوم، بدرجة كبيرة، خشية الرئيس السوري على استقرار نظامه نتيجة الرد الإسرائيلي، فهو لم يعد مؤمناً تماماً بأن إسرائيل سترد بصورة غير متناسبة على الاستفزازات. أضف إلى ذلك، أن القيادة العسكرية السورية تعتقد اليوم أنها قادرة على كبح عملية جوية وبرية إسرائيلية والتصدي لها.

يقوم السوريون بمراقبة إسرائيل ومتابعتها على الحدود الشمالية يومياً: هم يخرقون قرارات مجلس الأمن ويُهرِّبون السلاح إلى حزب الله، مدركين أن إسرائيل غير قادرة على ممارسة أي هجمات ضدهم. أرسلوا أيضاً في الآونة الأخيرة رسالة تهديد: إذا واصلت إسرائيل تحليقها فوق القصر الرئاسي، فلن نضبط أنفسنا كما فعلنا. لم يكونوا، قبل سنة، ليتجرأوا على إرسال مثل هذا التهديد. سلاح الجو حلَّق مرتين على الأقل فوق القرداحة ــــــ مسقط رأس الرئيس السوري ــــــ مع اختراق جدار الصوت بهدف إهانته.

يقول البروفيسور عوزي أراد، رئيس المعهد السياسي والاستراتيجي في المركز المتعدد المجالات في هرتسليا، ورئيس قسم في الموساد سابقاً ومستشار سياسي لرئيس الوزراء، إن «التآكل في الردع الإسرائيلي لم يبدأ في آب 2006. هناك تآكل تدريجي منذ عام 2000. إسرائيل كانت قد وضعت استعادة قدرتها الردعية ضمن أهدافها المركزية في الحرب الأخيرة، لكن أداءها لم يحقق ذلك، بل زاد حدة تآكلها».

ويصف اللواء احتياط يوسي بيلد تآكل القدرة الردعية بمصطلحات أكثر تعقيداً مثل «فقدان الخوف من الجيش الإسرائيلي»، مضيفاً أنه «إذا كان السوريون قد اعتقدوا في الماضي بأنهم يواجهون مشكلة في استعادة هضبة الجولان بالقوة، فقد أصبحت قيادتهم العسكرية تعتقد الآن أن الأمر ممكن. فهم يعتقدون، عن حق أو عن غير وجه حق، أنهم قادرون على توجيه ضربة لنا. فقدت القيادة السورية العليا الشعور بالخوف والوجل من الجيش الإسرائيلي».
وبالفعل، لم يمر يومان على انتهاء حرب لبنان الثانية حتى قال الرئيس السوري في السادس عشر من آب، للمرة الأولى بصورة علنية، إن هناك «خيارات أخرى» لدى سوريا لاستعادة هضبة الجولان. وبالتالي، لم يعد الأمر مقتصراً على الخيار السياسي وحده، بل أصبح هناك إمكان لاستخدام القوة. من هذه اللحظة، عاد السيناريو القديم حول إمكان حدوث ضربة عسكرية خاطفة في هضبة الجولان، إلى مكانته المرتفعة ضمن سلم الاحتمالات الإسرائيلية.

ويتقدم البروفيسور عوزي أراد خطوة أخرى نحو الأمام، فعلى حد قوله هناك نشاط عسكري سوري غير واضح منذ انتهاء حرب لبنان الثانية. ونهض الجيش السوري، الذي كان مُخَدَّراً تماماً، فجأة، وبدأ يُفعِّل أنزيماته على كل المقاييس. عوزي أراد قلق جداً من هذا الوضع، إذ يشعر بأن صورة الجيش الإسرائيلي كجيش لا يُقهر، قد تصدعت، ليس فقط في نظر سوريا، بل أيضاً في نظر دول المنطقة، مشيراً إلى أنه «ما من شك في أن الفشل في الحرب السابقة يُقرب خطر الحرب القادمة».

مؤتمرات بأحجام غير عادية
منذ الحرب الأخيرة في لبنان، بدأ الجيش السوري والجهاز الأمني في دمشق يتصرفون بصورة مختلفة ومقلقة. هناك جهود لبناء القوة بصورة ملموسة، وهي مغايرة تماماً لما شاهدناه خلال الـ 12 سنة الأخيرة. حجم إنتاج الصواريخ من عائلة «سكاد» وكمية الصواريخ البعيدة المدى، ارتقى درجة. القوات البرية السورية حصلت على دفعة جديدة من خلال التجهيزات، وخصوصاً الصواريخ المضادة للدبابات. وتغيرت تقنيات وتكتيكات القتال في القوات البرية السورية عن السابق، كما عُزِّزت منظومة الأسلحة المضادة للطائرات. وتعززت الشبكة الإلكترونية لدى الجيش السوري، التي من المفترض أن تشوش قدرات الجيش الحديث، بصورة ملموسة من خلال المساعدات الروسية والإيرانية. وزُوِّد المشاة بصواريخ متطورة مضادة للدبابات، كما عُزِّزَت الخطوط الدفاعية والتحصينات وحُفرت خنادق مضادة للدبابات.
المراقبون الغربيون في دمشق يقولون إن هناك مؤتمرات واسعة النطاق تُعقد في سوريا وفي قيادة الجيش، كما يقولون إن وحدة التوجيه المعنوي في الجيش السوري وزعت على الجنود في السنة الأخيرة، منشورات تركز على ضعف إسرائيل وجيشها من أجل رفع الروح المعنوية. ويتحدث الدبلوماسيون الغربيون، الذين يتبادلون أطراف الحديث مع القيادة السياسية والعسكرية السورية، عن تغير جوهري في الكلمات والتصريحات وعن عبارات حربجية وعن اختفاء الأحاديث عن النظام...

مثلث غزة ـ حزب الله ـ سوريا
لهذا السيناريو توجد صورة أخرى من خلال احتمال قيام الأميركيين بمهاجمة إيران جوياً مع استخدام الصواريخ الموجهة التي تُدمر 400 هدف، بينها 75 تفرض استخدام أسلحة قادرة على النفاذ إلى أعماق الأرض. وتُجمع كل الدول الغربية على أن رد إيران على الهجمة الأميركية سيتضمن تحريك حزب الله ضد إسرائيل، فطهران ستتهم إسرائيل في كل الأحوال بأنها مشاركة في الهجمة ضدها.
ويسعى الإيرانيون إلى توسيع المجابهة ضد دول أوروبية من أجل ممارسة الضغط على الأميركيين. ووفق سيناريوات الحرب، يقوم حزب الله بتوجيه ضربات لقوات الأمم المتحدة مثل قيادة القوات الإيطالية في جنوب لبنان. وتقوم إسرائيل، في إطار هذه السيناريوات بالتصدي لهجوم حزب الله، ومن هنا يصبح الطريق مفتوحاً نحو التصادم مع سوريا.

ويوجد سيناريو محتمل آخر يبدأ بدخول عسكري إسرائيلي مكثف إلى قطاع غزة. وبموجب هذا التقدير، الذي ينبغي لإسرائيل أن تأخذه بالحسبان، ينجر حزب الله إلى فتح جبهة ثانية في الشمال، ومن هنا يصبح الطريق قصيراً نحو التدهور للمواجهة الشاملة مع سوريا. ليس هناك اختلاف في وجهات النظر بين الجيش الإسرائيلي والموساد حول الحقائق أو المجريات الحاصلة في سوريا. الفرق الشاسع يكمن في الاستخلاص النهائي من ذلك: ما الذي تريده سوريا فعلاً؟ الجيش يقول إن سوريا قد تنجر إلى الحرب نتيجة خطأ في قراءة الواقع، أو سوء فهم. أما الموساد فيقول إن سوريا ليست معنية في المرحلة الحالية بالتسوية السياسية، وإنها تستعد للحرب، لذلك فإن احتمال حدوث المجابهة بمبادرة سورية قائم من دون علاقة بالأخطاء أو سوء الفهم.

صواريخ تصيب كل نقطة في إسرائيل
تعاظم القوة العسكرية السورية في السنة الأخيرة يتمحور في ثلاثة مستويات. اثنان منها يركزان على تعزيز قدرة الامتصاص للهجمات الإسرائيلية المحتملة جواً أو براً. أما المستوى الثالث فيسعى إلى تحسين القدرة الردعية من خلال تعزيز منظومة الصواريخ الباليستية الطويلة المدى. وفقاً للمعلومات التي جمعها الباحث يفتاح شفير من مركز أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب، كان لدى سوريا حتى السنة الأخيرة بين 200 ــــــ 300 صاروخ «سكاد بي» و»سكاد سي» و»سكاد دي». ويمتلك السوريون قدرة إنتاجية ذاتية لهذه الصواريخ. وفي السنة الأخيرة، دخلوا في عملية إنتاج سريعة للسكاد السوري الصنع، كما أنهم يمتلكون لواء صواريخ من نوع «فروغ» القديمة مع 18 قاعدة صاروخية. ولديهم، في لواء آخر، صواريخ تكتيكية دقيقة من نوع «اس.اس 21» يصل مداها إلى 70 كيلومتراً، كما أن هناك صواريخ أخرى طويلة المدى من تطوير سوري للصواريخ الصينية والروسية، 220 مليمترا، يصل مداها إلى 35 كيلومتراً، وصواريخ 302 مليمتر تصل إلى 115 كيلومتراً. الترسانة الصاروخية السورية وصلت في السنة الأخيرة إلى عدة آلاف.

وينشر السوريون منظوماتهم الصاروخية في ما يسمى «المثلث الحديدي»: منطقة صحراوية بين الكتيفة والقريطم شمال شرق دمشق. من هناك يستطيعون ضرب كل نقطة في إسرائيل تقريباً. كما سيضطرون إلى تقريب منظوماتهم الصاروخية إلى نقطة أقرب للجبهة حتى يصيبوا التجمعات السكانية الإسرائيلية بنجاعة أكبر. كما أن المنظومة التي يفترض بها التصدي لسلاح الجو الإسرائيلي، قد تحسنت في السنة الأخيرة وتحولت إلى إحدى الشبكات الأكثر اكتظاظاً في العالم: 200 بطارية مضادة للطائرات من كل الأنواع، بدءاً من الصواريخ القديمة البعيدة المدى مثل «اس.آي5» وحتى الصاروخ الذي قيل إن السوريين مهتمون به أو إنهم قد اشتروه من روسيا وهو «أس 10» وهو النظير الروسي للباتريوت الأميركي.

أما المنظومة التي يفترض بها أن تتصدى للقوات البرية الإسرائيلية إذا تغلغلت داخل الأراضي السورية، فهي شبكة تملك أعداداً كبيرة من الأسلحة المضادة للدبابات. ويستعد السوريون لتحويل كل منطقة الجبهة إلى كمين كبير مضاد للدبابات، عبر سلسلة متنوعة من الصواريخ المضادة للدبابات، بدءاً من «كورنيت» و«ماتيس» التي شاهدناها في لبنان وانتهاء بصواريخ «فاغوت» و«كونكورس». إلى جانب كل ذلك، يملك السوريون أسطولاً من الدبابات الضخمة بعضها قديم. كما لديهم منظومة مدفعية من أكبر المنظومات المدفعية في العالم. وهنا من المحظور الوقوع في الخطأ: الجيش السوري ليس حزب الله، هذا جيش مكون من 12 فرقة، وهو جيش كبير. في الآونة الأخيرة، بدأ السوريون يعززون قواتهم البحرية، وخصوصاً في المجال الدفاعي، واشتروا من إيران صواريخ «سي 802»، وهي صواريخ ساحلية بحرية من الطراز نفسه الذي أصاب البارجة الإسرائيلية «حانيت» في حرب لبنان.