ليس من قبيل المصادفة أن تتزامن ذكرى سقوط بغداد مع إعلان طهران عن تخصيب اليورانيم على نطاق صناعي، فانهيار التوازن الإقليمي بعد سقوط بغداد أعاد صياغة ميزان القوى، في وقت كانت الولايات المتحدة تسعى لصياغة المنطقة على إيقاع التغير الاستراتيجي الذي خلقه الاحتلال، وكان التوازن في الشرق الأوسط يتأرجح على مساحة العنف العراقي، فالإدارة الأمريكية لم تكن تملك بديلا سياسيا لمرحلة ما بعد الاحتلال، ورؤية "الشرق الأوسط الجديد" لم يحمل معه آليات سياسية بقدر كونه "تحرك انقلابي" يسعى لكسر المساحات الدبلوماسية السائدة في المنطقة.

عمليا فإن التواجد الكثيف للقوات الأمريكية في المنطقة لم يستطع أن "يملئ" الفراغ السياسي لمرحلة ما بعد سقوط بغداد، وفي نفس الوقت فإن القوات الأمريكية لم تستطع أيضا أن تتعامل مع العنف المتصاعد، فما حدث منذ احتلال العراق أوجد "تخلخلا" سياسيا واضحا، وانهارت المعادلة الإقليمية القديمة، ولكن دون أن تتضح معالم جديدة للشرق الأوسط، و على الرغم من كافة الضغوط السياسية فإن الشكل السياسي الجديد أوضح أن:

 العلاقات الإقليمية المحورية لم تتأثر نتيجة الاحتلال، حيث استمرت العلاقات السورية التركية، والسورية – الإيرانية، وشهدت العلاقات أيضا بين أنقرة وطهران استقرارا واضحا رغم الخلافات التاريخية من جهة، والمسائل المستجدة وأبرزها الضغوط السياسية الأمريكية على المنطقة ككل.

 أصبح واضحا أن المنطقة تسعى إلى التعويض عن "الخلل" الاستراتيجي بعد سقوط بغداد برسم آفاق استراتيجية جديدة، وهنا يظهر العامل الإيراني من جديد، إضافة لما يطلق عليه "التحالف" الاستراتيجي بين طهران ودمشق. ورغم كافة التحليلات التي تناولت هذا الموضوع، لكن تطور العلاقات السياسية بين البلدين يكشف مسألة أبعد من التحالف، لأنها تستند على استيعاب النتائج للاحتلال من جهة، وإيجاد مساحة سياسية يمكنها أن تستوعب أزمة انهيار الدولة العراقية.
ورغم أن البرنامج النووي الإيراني كان يسير بشكل مستقل قبل احتلال العراق، لكنه أصبح في صلب عملية البحث عن التوازن بعد سقوط بغداد، مما أدخله في صلب عمليات الشد والجذب السياسي، ليصبح موضوعا أساسيا في رسم العلاقات الإقليمية من جديد. وإذا كانت الإدارة الأمريكية تسعى لتطويق "الدور الإيراني"، فإنها تدرك في نفس الوقت أن هذا "الدور" امتلك تشعبات كثيرة بعد احتلال بغداد، فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط بأمن الخليج، وبات واضحا أن العلاقات السورية – الإيرانية تخلق مساحة سياسية جديدة لها امتداداتها في العراق ولبنان وفلسطين، وهذا الشكل لما تطلق عليه الإدارة الأمريكية بـ"الدور" الإيراني أصبح عاملا أيضا في عملية بدء الحوار مع دمشق. فالتحليلات السياسية طوال الأسابيع الثلاث السابقة كانت تتحدث عن "إبعاد" دمشق عن طهران، أو حتى عن إيجاد حلول تحاول "عزل" إيران إقليميا عبر تفكيك الأدوار ما بين دمشق وطهران.

وفق هذه الصورة فإن إيران وسورية دخلتا مرحلة جديدة في الاستراتيجية الدولية، ولكن في نفس الوقت فإن رسم أفق العلاقة ابتعد عن مساحة "الشد والجذب"، فعناصر بناء التوازن الإقليمي ما تزال تحتاج إلى تعامل مع "البيئة الاستراتيجية" التي خلفها احتلال العراق، وتبلورت بشكل واضح في حرب تموز 2006، مما فرض على علاقة طهران ودمشق تعاملا يتجاوز "توازع الأدوار"، فالمنطقة عاشت صراعا استراتيجيا حادا مستمرا منذ أكثر من أربع سنوات، وهذا الصراع لا يرتبط فقط بسياسات الدول كما كان عليه الأمر خلال الحرب الباردة، بل بتبديل الجغرافية – السياسية، فهذه الجغرافية التي يمكن أن تدخل مرحلة التحول نتيجة تغير الظروف لمجمل الشرق الأوسط خلقت انقساما واضحا، هذه المعادلة أعقد من حصرها في الضغط على العلاقة السورية – الإيرانية. وهي في نفس الوقت ليست خيارا مفتوحا أو بديلا للعلاقات السورية – العربية، لأنها مرتبطة بصورة الشرق الأوسط وأبعاد التوازن فيه.

ووفق قراءة سريعة فإن العلاقات السورية – الإيرانية تطورت في مرحلة التحول الحاد بعد سقوط الشاه، وما يحدث اليوم في المنطقة يقارب في نتائجه نهاية السبعينات عندما ارتج التوازن الإقليمي، فالعلاقة بين طهران ودمشق ليست رهينة حدث سياسي، إنما مرتبطة بالتعامل مع القوى الإقليمية على قاعدة من المصلحة الذاتية بالدرجة الأولى والبحث في أي اتجاه يمكن أن يتطور "الجيوبولوتيك" في سورية أو في الشرق الأوسط عموما.

مصادر
سورية الغد (دمشق)