كنعان اون لاين
جدلية الوطن والمنفى
(التربية الإسرائيلية والتربية على المنفوية في عهد ما بعد الحداثة)
د. إيلان غور-زئيف
إعداد سلمان ناطور
منشورات مدار، 2006
(170 صفحة)

تفيد قراءة هذا العمل منذ البداية أن الكاتب يعرض لنا اليهودية من مقترب فلسفي مثالي مجسداً إياها في الروح اليهودية، حسب تناوله، جرياً منه على تجسيد يوحنان بن زكاي (ت 95م) لليهودية بما هي ثورة، اي ثورة يوحنان نفسه، على النزعة القومية المعاصرة في سبيل إنقاذ الروح اليهودية، بالعودة إلى المنفى، من عالم القومية الذي تضيق هي بدورها منه. فقد أقرّ بن زكاي واعترف بقوة وغلبة الأغيار على اليهود، ودعا إلى عدم التصادم معهم، بل إلى التعامل مع الذات اليهودية الداخلية. وفي هذا السياق يفصل الكاتب هذه الروح عن نزعة الصهيونية في الإنشداد للقوة وعن نزعة الصهيونية السياسية التي تعتبر اليهود أمة أو اليهودية ديناً قومياً. وإذا افترضنا أن المنفوية مرتكزاً اساسياً في الكتاب، وهي كذلك بالفعل، يصبح بوسعنا القول أن هذه المراجعة هي اختبار لمدى نأي المؤلف بنفسه عن الإيديولوجيا الصهيونية حتى بزعمها انها إيديولوجيا قومية.

تواصلاً مع مقتربه الفلسفي الصوفي لليهودية، يوجه المؤلف نقداً للصهيونية من مدخل إنكارها للدياسبورا- كما اعتبرها بن جوريون- باعتبار ذلك الإنكار نأياً لها بنفسها عن القدر الأخلاقي اليهودي. وعليه، فإن الكاتب يموضع نفسه ضمن الفهم والتفهم الصوفي لليهودية.

ويواصل نقده للصهيونية بقوله إنها لم تخلق اليهودي الجديد كما زعمت. كما انها لم تربي اليهودي الذي يتجاوز الجيتو "ويمد يده بكرمٍ إلى العالم العربي، ولم يقم السلام الحقيقي معه". وقد يكون محقاً في كون الصهيونية لم تخلق اليهودي الجديد بمفهومه الصوفي لهذا الجديد، ولكن بمفهوم الصهيونية، فهي ترى انها خلقت اليهودي الجديد، الذي هو بنظرها مشروع المحارب الدائم "والمنتصر" دوماً. وبهذا المعنى، فهو ليس محقاً في كونها لم تخلق اليهودي الذي يتجاوز الجيتو ويمد يده بكرم إلى العالم العربي، لأنه طبقاً لكون الصهيونية خلقته على شاكلتها، لن يمد للعرب يداً بل سيفاً! هذا مع العلم أن مد اليد بكرم إلى العالم العربي هو مثابة إخفاء من الكاتب لحقيقة الصراع. فإذا كان لا بد لليهودي أن يقدم للعرب شيئاً، فهو الإعتراف بالرواية العربية للمذبحة، اي إقرار اليهودي/الصهيوني بجريمته، وبحق الفلسطيني وبالتالي طلب الصفح منه، (على طريقة فوكو وداريدا، فلاسفة الصفح المثالي الذين تحدث عنهم الكاتب لاحقاً). وكل هذا لا علاقة له بالكرم. فاليهودية أصلا لم تمد "يد الكرم" إلى الآخرين بأي وقت من تاريخها. وما محاولة الكاتب إلا محاولة لإنتاج يهودية جديدة، لم تكن في أي يوم من أيام تاريخها المديد. فـ"التناح" وكافة الآداب اليهودية الأخرى من: مشناه .. وتلمود، هي اليهودية الفعلية، التي تقبل الأغيار، وليس رغبة الكاتب بإنتاج يهودية جديدة.

في الفصل الأول من الكتاب، يرفع المؤلف الدراما الصوفية الإفتراضية إلى درجة عالية توصله للتساؤل:
"ألا ترى أنه آن الأوان في إسرائيل من أجل تعليم مضاد يُعد لمبادرة ذاتية لإزاحة يهودية (استبدال المكان) ولطريقة حياة دياسبورية؟، فهو يرى في العرق والديانة اليهودية تميُّزاً ينتهي إلى صهيون، ليس بمعنى وطن محدد ولكن إلى الفضاء العالمي لوجود عالم الإنسان والتجاوز مثل "صهيون" الأصيل.

حتى الآن، فإن نقطة ارتكازه هي أممية المكان بالنسبة إلى صهيون وهذا ما يفترض اعتبار المنفى مكاناً طبيعياً، أو اعتبار المنفوية أمراً طبيعياً وحالة تسامي، تليق بصهيون "الأصيل" كما يرى. ولكن أممية المكان هي التي سترده إلى اعتبار فلسطين جزءاً من المنفى الأممي ليبرر بذك ولو لا مباشرة بقاء المشروع الصهيوني على حاله في فلسطين (انظر لاحقاً).
ونظراً لطبيعة إسرائيل يرى مصيرها على النحو التالي:
" ان اسرائيل التى لو تمكنت من البقاء لجيل او جيلين، آخرين، لن تتمكن من القيام بذلك إلا في إطار هيكل او كيان سياسي أشبه بـ"إسبارطة أشرار"، وإسرائيل بهذه الصفة (أي إسبارطة أشرار) هي مثابة عملية أو سيرورة، وليست هدفا لعمليات تاريخية تصوغ حيز الخيارات الإسرائيلي-الفلسطيني في هذه اللحظة التاريخية" (ص 31).

من هذا يتضح انّ الكاتب لا يتوقع هزيمة لإسرائيل، وإن كان لا يرضى باستمراها في حياة تقوم على حد السيف. كما لا يراها قادرة على التجسيد المستقبلي للخيارات الإسرائيلية – الفلسطينية. كما أنه لا يرى أو لا يقترب من خيار آخر هو اندماج إسرائيل في المحيط العربي، هل لإعتقاده انها بطبيعتها ليست اندماجية في المنطقة، ام لأن المنطقة مرفوضة بالنسبة لها (كما يقول عن انحطاط الشرق الأوسط- انظر لاحقاً) أم لأنه هو نفسه لا يرضى لصهيون "الأصيل" ان يندمج في هذا الشرق الأوسط. هذا ما ليس واضحاً، كما يقول: "إن التاريخ بحنكته ودهائه يجسد الحقيقة المرة التي يتهرب منها الإسرائيليون والعرب كالهارب من النار، ألا وهي أن شعب إسرائيل بات جزءاً من الإنحطاط والأفول الشرق أوسطي، وبهذا المعنى فانه (اي الشعب الإسرائيلي) يعد واحدا من اهل البيت في العالم العربي. هنا في هذا المكان لم يعد ثمة مستقبل لا لصنع او جمع ثروة طائلة ولا لمجتمع حر، منفتح متنور وديمقراطي، ولا حتى للرسالة الأخلاقية الإنسانية" (ص 33-34).

هنا يجرد الكاتب العرب، الناس والجغرافيا من الارتقاء إلى درجة تحقيق الصهيوني "الأصيل" لنفسه ورسالته، وبالتالي يضع أمام اليهود خيار المنفوية أو خيار الإندماج الانحطاطي في الشرق الأوسط. عمليا، هذا المنطق لا يزال يحكم اليهودية منذ نشأتها إلى اليوم. فاليهودية ترى اليهود "جماعة نوعية" لا بدّ لهم من العيش "منعزلين" عن الآخرين، كما تجسدت على مرّ تاريخهم.

وما يزيد ميله نحو المنفوية وجود مأزق آخر غير "إسبارطة الأشرار" أمام إسرائيل وهو المأزق التربوي بمعنى أنه لم يعد سهلا على المربين خداع الجيل الجديد بعبارات مثل "تحسن الاحوال" ، او "النصر حليفنا"...الخ فيقول لقد اخذت تنحسر قدرة تعبئة وتجنيد الأفراد للتضحية من اجل المثل والاساطير المهيمنة حتى لو ظلت تلهج الألسن بـ"الموت للعرب"، أو " ليس لنا وطناً آخر" ...الخ.
وهذا ما يوصله إلى القول:

"إن غاية ورسالة التربية على المنفى، هي في أبسط معانيها ضمان أن يكون أبناؤنا مستعدون تماماً للعودة إلى حياة المنفى". ويبرر ذلك بالاستنتاج: "لا يوجد مكان آمن هنا لحياة تجمع يهودي مستقل وذي سيادة، غير قابل للتحول إلى إسبارطة أشرار" (ص 35). وهذا تأكيد على رفض الإندماج في المكان، الإقليم إن صح التعبير. ولكن على ماذا يقوم هذا الرفض؟ هل هو قائم على التربية والثقافة العنصرية للدولة الصهيونية، أم على ثقافة المستوطن الأبيض، أم على ثقافة التصوف اليهودي المتعالي، أم على ثقافة اليهودية كدين ونهج حياة؟ .
ويؤكد نزعة المنفوية بقوله: "فالتربية على المنفى لا تعرف الدول وليس لها بيت او موطن وطن... "هنا يغدو عدم الثبات قيمة، فعدم الثبات لا يشكل ضرورة حتمية ولا إمكانية مجردة، وإنما رسالة أخلاقية وغاية" (ص 36). ولكن، لماذا لا يكون لهذه النزعة، بل القناعة، أساس آخر ترتبط فيه وهو أن التربية على المنفى وخاصة في حقبة الرأسمالية المعولمة، هي خاصية راسمالية، كرأس المال الذي لا يعرف وطناًً.
ثم يضيف:
"وباختصار، فإن التربية على المنفوية التي تؤدي إلى الخلاص، تخضع لمثل يهودية راسخة الحياة في ظل الحضور الإلهي والاستجابة لنداء المسؤولية الملح نحو الحياة الجديرة كحياة مفعمة بالحب والسمو والاجتهاد الخلاق المستمر، وبالاستعداد لمد اليد لـ"الآخر" (ص 38).

لكن هذا الآخر، من جهة، ومد اليد له من جهة أخرى، هو حالة مفترضة ومجردة، إلا إذا كان هذا الآخر قريب على اليهودي الذي يتحدث عنه. فلو كان الأمر بريئاً بسيطاً على هذا النحو، لكان الآخر هو العربي الفلسطيني، ولتم مد اليد إليه، أو بوضوح أكثر، لكان قد تم رفع اليد عنه، بما أن اليهودي في إسرائيل هو محتل ومستوطن. أو لكان الكاتب قد وازى بين الكارثة النازية ضد اليهود والمجموعات القومية والإثنية الأخرى، والكارثة التي أوقعتها الصهيونية بالفلسطينيين، والفارق بينهما هو إشتداد الأولى وامتداد الثانية.

من المنفى الفلسفي إلى المنفى الصهيوني
"وبهذا المعنى فان التربية على المنفوية تجسد دينية يهودية عالمية عميقة على نطاق عالمي. محاولات تجسيد اليهودية ومحاولات التغلب عليها، مؤجلة لصالح الصراع من اجل موقف انساني عام ضد سائر مفاهيم "العودة للوطن" الى الجنة المفقودة، وبضمنها المفاهيم اليهودية... وفي حقيقة الأمر فان التربية على المنفى بمثابة مشروع للانسانية جمعاء. وهي على الصعيد اليهودي في اسرائيل ملزمة باعتراف بامكانية وضرورة وجود منفى يهودي في فلسطين المحررة. وفي هذا السياق فان باستطاعة هذه التربية بل ومن واجبها ومنذ الآن اتاحة مجال لمشروع "إعادة بناء يبنة، [أي إعادة بناء ما تهدم] عليها أن تعود بصورة انتقادية لمنطق العقيدة المنفوية ليوحنان بن زكاي، [الذي أعاد بناء السنهدرين والمؤسسات اليهودية الأخرى في يبنة، بعد تدمير أورشليم عام 70 ميلادية] والذي ثار ضد النزعة القومية المعاصرة، [المتصارعة والمتحاربة مع الأغيار- ما بين الأقواس ليس من متن الكتاب ع.س] في سبيل إنقاذ روح اليهودية" (ص 39)

وهكذا، لا يلبث الكاتب أن يخرج إفتراضياً من النزعة الإستيطانية المغلفة بالدين حتى يعود إليها عبر نزعة استيطانية ظاهرها منفوي وجوهرها استيطاني صهيوني، معتبراً أنه "على الصعيد اليهودي هناك ضرورة للإعتراف بضرورة وجود منفى يهودي في فلسطين المحررة. وهنا يعقد التناقض بين هذه النزعة اليهودية وبين رفض يوحنان زكاي للقومية المعاصرة حيث يرفضها من أجل إنقاذ روح اليهودية. وعليه، فنحن أمام تحول في منفوية الكاتب من الخروج من فلسطين، إلى تبرير البقاء فيها. وهكذا، فهل نجح الكاتب كما زعم في (ص 40) في الفصل بين روح الرسالة اليهودية وبين نزعة القوة الصهيونية؟ لا نعتقد ذلك!

التربية على التعددية الثقافية في مجتمع ما بعد الحداثة

ثم يفرد فصلاً بعنوان التعددية الثقافية في مجتمع ما بعد الحداثة، ويقتطف ما يلي من عزمي بشارة:" النموذج الذي يبدو منطقيا من وجهة نظري هو الذي يدعو الى اوتونوميا ثقافية وظيفية، وليس لأن المطالبة بالأتونوميا الإقليمية تذهب الى ما هو ابعد من ذلك. والجدير بالذكر انه يمكن اعتبار صلاحيات المجالس المحلية اوتونوميا اقليمية.وحيث ان العرب في اسرائيل موزعون في كل مناطق الدولة، وبضمن ذلك المدن المختلطة، فانه لا يمكن على الإطلاق ان تطبق عليهم اوتونوميا اقليمية. لذلك يمكن ان تطيق عليهم اوتونوميا وظيفية" ص 58.
بالطبع ليس هنا مجال نقض مزاعم بشارة بأنه قومي عربي وفي نفس الوقت يُقر ببقاء الفلسطينيين ضمن النظام والسلطة الصهيونية الإستيطانية ويحصر مطالبهم في المستوى الثقافي، بينما يعتبرهم اقلية قومية في نفس الوقت. هذا دون ان يتطرق بشارة بكلمة للمنفى الفلسطيني، للشتات! وينتهي الكاتب إلى انه لا بشارة ولا اليهود الشرقيين الذين يشعرون بالاضطهاد يحققون متطلبات تربية متعددة الثقافات (ص 59). فبشارة واليهود الشرقيين يريدون حصتهم في هذا المشروع. أي يريدون أن يكونوا شركاء فعليين فيه.

يفصل الكاتب بين التربية متعددة الثقافات والتعدد الثقافي الذي هو لبرالي غربي. فهو يرى أن التربية متعددة الثقافات تُباعد ما بين ذاتها وبين المباني الإثنية والقومية وأنها متجاوزة للتعدد الثقافي الذي حين يربطه باللبرالية الغربية، إنما يربطه بالطبع بأنظمة الحكم بالطبقات الحاكمة. وكأنه يحاول الخروج على التربية كما هي من الدولة، هيمنة الدولة.
وحين يصل بنا الكاتب إلى الاستنتاج أن عزمي بشارة من "الأقلية القومية العربية في إسرائيل" واليهود الشرقيين وهم إثنية كبيرة في إسرائيل، لم يقدما بديلاً متعدد الثقافات مثلهما مثل التربية الدولانية التي لا تقدم أيضا تربية متعددة الثقافات، فهو يصل إلى الاستنتاج بأن إسرائيل لم تتخطى التعدد الثقافي الإثني. كما ليس واضحاً فيما إذا كان الكاتب أدمج الإثنية الجديدة في الإثنية الأشكنازية، اقصد اليهود الروس الذين يشكلون اليوم إثنية صاعدة تنافس هذه المرة على قيادة الدولة علانيّة وبالسرّ أيضًا. فما معنى وجود هذا الكمّ الهائل من رجال المافيا من اليهود الروس في إسرائيل والعالم. وما هو سرّ علاقتهم بها، أي إسرائيل!؟.

يرى الكاتب أن التربية متعددة الثقافات، المتجاوزة للإثنيات تصطدم بالتربية اللبرالية الغربية التي تقبل بالتعددية اللبرالية شريطة أن لا تتعرض السلطة اللبرالية لتحدٍ يناقض المفهوم اللبرالي للثقافة السياسية والممارسة الديمقراطية الذي يضبط الحوار التربوي بين الاختلافات الثقافية الجماعية. أي تربية لا تقدم بديلاً للتربية الدولانية، التربية بالهيمنة. وهو يرى أن التربية الدولانية الإسرائيلية، الخطاب الدولاني في اسرائيل بين الجاليات المختلفة والثقافات المختلفة هو خطاب عنفي واضح (ص 68). ولماذا لا نرى "التربية متعددة الثقافات" تحديا للفلسطينيين، سواء في فلسطين المحتلة، أو في "فلسطين المحررة". فهذه التربية تعتبر تحديا لانتمائهم القومي، علما أن اليهود ليس بإمكانهم تجاوز اليهودي: الديني القومي!؟

ولكن السؤال هنا: هل هناك توجه في الصهيونية لتجاوز التعددية الثقافية باتجاه التربية متعددة الثقافات؟ بالطبع، لا. لأن اليهودية نشأت بفعل التاريخ، وليس خارجا عنه. بمعنى أنها ثقافة متعيّنة، وغياب التعدد الثقافي، يعني غيابها. وعليه، لا يعود هناك مجالاً حقيقيا لنقده للصهيونية بأنها لم تنجح في تجاوز التعددية الثقافية. هذا مع أهمية الإشارة إلى ان الإدماج الذي يذكره الكاتب بين اليهودي الصبار المولود في إسرائيل وبناء الدولة حسب بن غوريون، لأن هذا لو حصل، فإنه في نطاق التعددية الثقافية لليهود الذين هم متعددي الثقافة حسب أصولهم، ولكن يستثنى بوضوح منها العرب، طالما أن الأمر محصور في اليهود.

وفيما يخص الجانب العنفي، فهو يعود إلى ما بدأ منه، إلى "إسبارطة الشريرة" ولكن هذه المرة، ودون ان يذكر، أن هذه الشريرة هي أيضاً شريرة داخلياً، بمعنى ان الخطاب الثقافي بين الإثنيات في إسرائيل هو صورة داخلية للعنف الخارجي الذي يطبع إسبارطة هذه، وكأن كلا الخطابين يغذي الآخر ولا ينفيه. واضح لنا أن "إسبارطة الشريرة" هي أقلّ شرّا من (يهوشع بن نون) في (يريحو/ أريحا). أو التطهير القومي في الـ1948!!
ودون أن يشير إلى استخدامه لنظرية أنطونيو غرامشي في الهيمنة، فإن شرحه لدور الدولة، المجتمع السياسي في إسرائيل، هو تطبيق نموذجي لنظرية غرامشي لدور الدولة في المجتمع المدني وخلقه على شاكلتها (ص 70) ويصل إلى الإشارة كيف تستخدم الدولة الهيمنة وكيف أن المؤسسة الرسمية "الدولة" تجعل من ضحاياها، اي المواطنين معجبين بها. واكثر ولاء لها، رغم أنها أغرقتهم ببراعة في الهيمنة، اي تحكمت بوعيهم فتمثلوا واستدخلوا الهيمنة وانتهوا معجبين بها.

بالنسبة للكاتب، فإن التربية من أجل السلام والتعددية الثقافية تربية تهجس بتطلعات التسامي في الصراع الدموي الاسرائيلي الفلسطيني وهو يصل بهذا الى الانتقال من التعددية الثقافية إلى التربية على الثقافة المتعددة التي شرطها امكانية الإلتزام الأممي قبول "آخرية" الثقافة المختلفة.

والكاتب في هذا المستوى، إنما يدخلنا في جدال طويل ولكن متجدد هذه الأيام فيما يخص المسالة القومية التي يشن عليها باسم الأممية اليهودية هجمة الإتهام بالعنصرية. وهذا الهجوم إنما يتقاطع مع حراك العولمة الراسمالية على الأرض التي تقضم السيادة القومية في المجتمع الحديث وتركز على تخليع حدود القوميات، حدود الدولة القومية. ولكن لصالح من؟ هل هو للتعايش الإنساني الأممي المتساوي، أم هو لكي يتنقل راس المال بحراك استغلالي حر في البلدان الفقيرة أو غير الصناعية، بلدان الاستهلاك؟ لعل هذا يكشف لنا الخيط الناظم الراسمالي في هذا الطرح، وإن كان مطلياً بالصوفية الفلسفية. فـ"الالتزام الأممي بقبول آخرية الثقافة المختلفة" مطلوب بالنسبة للكاتب في أي نظام اجتماعي سياسي إذا ما انتقلنا من التجريد إلى التعيُّنْ" فالآخر ليس مجرد حالة ثقافية، بل هو في الأساس حالة اجتماعية طبقية. وليس هنا مجال الدخول في إشكالية وجود ثقافة واحدة للمجتمع الواحد، وحتى وجود ثقافات في المجتمع الواحد محددة على اسس طبقية، إلى جانب المشترك الثقافي القومي للإمة الواحدة.

لا شك ان الكاتب محق في الحديث أن التربية على التعددية الثقافية تحمي الثقافات المهمشة، وهي بديل مطلوب للتربية الغربية السائدة، وهي كذلك تكشف التمركز الاثني للتربية الغربية التقليدية. ولكن هذه المساواة، وإن كانت ضد النمط اللبرالي الغربي في الثقافة، إلا أنها لا تتجاوزه في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، بل تعود لتلتزم به مجدداً وبطريقة هي نفسها تجسد نفسها كنموذج هيمنة. هذه المرة هيمنة التعددية الثقافية التي تخضع الإنسان لهيمنة أعمق، هيمنة الطبقة الرأسمالية. وعليه كأن الكاتب يقول لنا، في المستوى الاجتماعي الاقتصادي الطبقي لا مكان إلا لِـ(تينا There is no alternative TINA) أي لا بديل للراسمالية.

شأنه شأن اتفاقات التسوية ولا سيما أوسلو، فإن الكاتب يجعل نقطة ارتكازه هي اللحظة الراهنة، الراهن السياسي، مبتعدا كلياً عن كيفية تكوُّن هذا الراهن السياسي، وما هي آثاره على الآخر الفلسطيني والعربي. وهنا يكمن تناقض خطير في مبناه الفكري. فكيف يمكنه استحضار الروح الصوفية لليهودية- وهي ليست في اليهودية وحدها- كيف يمكنه استحضار كل هذا القديم ليواجه به مطلق المسألة القومية، سواء قومية المركز الاستعماري/الإمبريالية والمعولمة، أو قومية الأمم الخاضعة للذبح الرأسمالي؟ كيف له أن يستحضر كل هذا العتيق تاريخياً، ولا يستحضر، او يسمح للآخر، الفلسطيني باستحضار ما قبل عدة عقود، بل باستحضار الأمس ووعي اليوم! فمنطقه يبقى يهوديا نافيًا للآخر الفلسطيني.

ينقد الكاتب التربية الحكومية الإسرائيلية بما هي محاولة تكوين وعي جمعي وهوية قومية متمركزة حول الاثنية لليهود وحتى للعلمانيين منهم، حيث تهدف هذه التربية الحكومية إلى تطهير الارض من هويتها الفلسطينية وعقلية يهود الشتات المسيطرة عليهم. والسؤال هو: ما هي حدود شرعية التطهير المتوازي هذا؟ على غرار التطهير بالأواني المستطرقة. وبغض النظر عن مناخ ومسببات عقلية الشتات المسيطرة على يهود الشتات، وحدود ذنبهم التاريخي فيها وذنب غيرهم، فإن الهوية الفلسطينية مختلفة على الأقل من جانب أن يهود الشتات هؤلاء قاموا بعملية تطهير عرقي ومذبحة ممتدة وراهنة ضد الفلسطينيين. فلا يمكن عقد توازٍ بين الإثنتين! لصالح مّن تتم موازاة تطهير الأرض من هويتها الفلسطينية بتطهير يهود الشتات من نزعتهم الشتاتية التي لم يتخلصوا منها؟ أليس من أجل التعاطي مع فلسطين كما هي، اي بمعزل عن خمسة ملايين مشرد؟ اين يمكننا تصنيف الصوفية اليهودية، وهي حبيسة يهوديتها ولم تخرج إلى الفضاء الإنساني الرحب، التي يتبناها الكاتب في هذا المستوى؟ وإذا كان لا بد من مساواة بين ظروف الطرفين، فلماذا لا يساوي بين مذبحة اليهود على يد النازية (المذبحة المشتدة) ومذبحة الفلسطينيين على يد الصهيونية (المذبحة الممتدة) المذبحة المصلوبة حتى الساعة؟.

واستطراداً لعدم نقده عملية "موازاة" المسألتين يقول: "لذا لا يسمح هذا المشروع لليهود المتدينين بتكوين شبكات تربوية مستقلة .. .ويمحو أية تجليات للهوية القومية الفلسطينية" (ص 83).
بعد الموازاة، ودون أن يتعرض لهذه المسألة بتفكيكها أو على الأقل بفك جزئيها عن بعضهما لأنهما لا يتوازيان، يستطرد في وصف التربية الدولانية في إسرائيل بأنها: "لا شرعية لديها للاعتراف بالآخر... لا يوجد في اسرائيل مناخ عام غير عنفي... ولا مناخ حقيقي لمجتمع مدني... ولا لتقليد لبرالي والتزام بالتعددية.. إنها كثيولوجيا (لاهوتي) يهودية لا تستطيع الا التمركز إثنيا وتحقق ذاتها من خلال الاستعمار الداخلي" (ص 89).
للاستعمار الداخلي، هذا، مظهرين أساسيين على الأقل:

الأول: إنه استعمار داخلي مركب، بمعنى أنه توليد لعدة مستويات من الإستعمار/المقاومة. استعمار داخلي يقاومه الخاضعون له ليحلوا محله وليس ليخلقوا مساواة. ومن هنا هشاشة هذه الدولة ثقافيا على الأقل. فالإشكازية استعمار ثقافي داخلي بماكينة الدولة تخضع اليهود الشرقيين الذين يحول تثقيفهم دون انفجارهم إثنياً بأن "العرب، كما كان فرديناند وإيزابيل، على أبواب الأندلس لذبحهم". وهناك اليهود المتدينين الذين ليسوا جميعاً شرقيين ولهم مشروعهم الثقافي، وهناك اليهود الروس، وجميع هؤلاء استعمارات داخلية فوق العرب الفلسطينيين، الذين هم ايضا جرت محاولات تفكيكهم إلى مسلم ومسيحي ودرزي وبدوي...الخ. وهم ايضا الفلسطينيين لا يرون في هذه الدولة دولتهم.
الثاني: إلى جانب الاستعمارات الداخلية المتراكبة، هناك الاستعمار الداخلي الإقتصادي. هناك قرابة 1,3 المليون عربي الذين يعيشون في مهاجع سكناهم في حين أراضيهم الفردية الخاصة، وليس القومية وحسب تقام عليها أحدث المصانع والمساكن والمزارع لليهود، وهم يعملون فيها بالأجرة ويستهلكون ما ينتجونه فيها بأعلى الأسعار في حالة من التغريب القومي والطبقي والإنساني عامة.

أما وتركيز الكاتب على الثقافي وغوصه إلى نصف البئر وليس قاعه، فنحن هنا امام حالة ثقافية تقبل بالراسمالية المتغولة فتركز الأضواء على الثقافي تركيزاً يقصد به العمى الضوئي وليس تعميق الرؤية. وهنا لا يشفع كثيراً للكاتب استمرار قوله: "هذا التمييز ضد الآخرين والذي إذا ما قاد الى ثيووقراطيا يهودية سيقود لعنف واضح وصراع كلي مع العرب.. ربما يضمن سقوط دولة اسرائيل" (ص 90). أما قوله بعنف واضح وصراع كلي مع العرب، فهذا إقرار بما هو قائم وإدراك لا يحتاج لجهد كبير بأنه سيبقى في هذا الإتجاه. أما القول بأنه ربما يضمن سقوط دولة إسرائيل، "إسبارطة الأشرار"، فقد جاءت هزيمة إسبارطة في لبنان صيف 2006 لتحذر من هذا السقوط. وقد يكون الكاتب من بين الذين ادركوا بعد حرب لبنان الأخيرة، أمثال بريجنسكي بأن إسرائيل بما هي مرتبطة بالسياسة الأميركية في المنطقة، وبما أن الوجود الأميركي في المنطقة يتهاوى، فإن مصير إسرائيل كذلك.
إن وصول الكاتب إلى احتمال سقوط "إسبارطة الأشرار"، حتى لو لم يربط ذلك بنتائج حرب لبنان، إنما هو إقرار أن إسبارطة هذه لم تقم بقواها الذاتية. وهنا الهشاشة الحقيقة لها، هنا كعب أخيل.

نقد الدولة:
يعود الكاتب إلى مسألة الدولة فينقد دورها بشدة. لكنه نقد ينحصر في المستوى الثقافي، أو التربوي تحديداً. فلا يقترب من النظام الإقتصادي للدولة ولا النظام السياسي، لا يقترب من المؤسسة الإقتصادية ولا السياسية، بل ينحصر في الثقافي، وليس في الطبقي. صحيح أن الكاتب مع التعددية الثقافية، ولكنه لا يتعامل مع الإطار الأوسع الذي سوف تصب فيه، وهو الثقافة الراسمالية العالمية المتأمركة. كما أن نقده الثقافي للدولة لا يرتقي فيما يخص الفلسطيني، اي نقد ثقافة تقمُّص المذبحة وممارسة نفس دور النازي.

يرى أن "التربية على التطبع في إسرائيل" التطبع بإيديولوجيا الدولة، ببرنامجها التربوي الذي هو راسمالي إثني "الذي خلقته الدولة" قد محى الوعي المنفوي وانه انتصر على الروح اليهودية". ومن هنا يقول "هذه خطورة الرواية المسيطرة: من المنفى الى الخلاص "، خلق اليهودي الجديد وتثبيت البوتقة الصاهرة".

نحن هنا أمام خلل آخر في منهج الكاتب العلمي والأخلاقي. فهو لا يرى أن خلق اليهودي الجديد وتثبيت البوتقة الصاهرة، أي المؤسسة الدولاية شديدة الحضور في إسرائيل أكثر من اية دولة في العالم، كانت ولا تزال على اشلاء "الفلسطيني القديم" "أو المجتمع المبدَّدْ" على يد " البوتقة الصاهرة"!

وحتى إشارته إلى أن مشروع اليهودي الجديد يستند على مفهوم تذكر "تذكر ما فعله العماليق"، فهي وإن كانت إشارة في معرض النقد، إلا أن الكاتب، يتجاهل ذاكرة الفلسطيني تماماً بتجاوزه على المذبحة الممتدة للفلسطيني على مدار قرن ولم تتوقف بعد. وعليه، فانتقاده لنجاح التربية التقليدية في عصر ما بعد الحداثة في تواصل تعليم الكارثة، لا يقلل من سقطته، التي هي ربما بوعي، ولِمَ لا تكون كذلك، في تجاهل كارثة الفلسطينيين. وفعلة العماليق، جاءت بعد مجزرة (يريحو/ أريحا)..

قد يجد فهم إسرائيل تفسيره ثقافيا وتربويا في هذا. ولكن فهم إسرائيل ككيان مادي استيطاني اقتلاعي لا يجد نفسه وتفسيره قط إلا في واقعها الاستعماري وموقعها في النظام العالمي؟

يضيف الكاتب، أن "التربية المطبعة، سلبية مطلقة عن الآخر الفلسطيني .. وايجابية للأنا الجماعي الاسرائيلي" هذا صحيح، ولكن مرة أخرى غير كافٍ. فما هي حدود السلبية التي يراها تجاه الفلسطيني من جهة، وإلى اين يصل هو في هذا المستوى تجاه الفلسطيني، اي عن اي فلسطيني يتحدث؟ عن الفلسطيني الذي قتل وطرد من ستة عقود، أم عن الفلسطيني الموجود فقط في مناطق الاحتلال الأول، 1948؟.

بسبب من كونه لم يخرج حقا من تحت عباءة "التطبع الدولاني، أو الدولة المطبعة،" فقد انحصر في تذكر وكارثة واحدة فقط، وتجاهل التذكر والكارثة لضحايا التذكر والكارثة الأولى. فهو يقول: "التذكر والكارثة انتهت الى تطبع على: اليهودي الضحية الابدي، وغير اليهودي عمليك ميت" (ص 105). وربما لأنه لم يتخلص كما يجب من "تطبيع الدولة والتطبع بتربيتها" فقد اعتبر الفلسطيني "عمليك ميت"، ولذا، لا يحتاج إلى ذاكرة ولا قيمة لقراءة ما حل به، فهو .."عمليك ميت". وهل يشعر القاتل بألم ضحيته؟ لا، بل حتى الراسمالي الذي يفصل عمالا كي لا ينحدر معدل الربح قليلا، لا يفهم قط شعور العامل الطريد الذي لا يملك سوى نفقات يومه.

وينتهي في هذا الباب إلى الاستنتاج بأن "صراع الرواية الفلسطينية والاسرائيلية هو على نفي وهدم الاخر واعادة تثقيفه"(ص 146). وبهذا كأنما يلخص المؤلف الصراع ويحصره في المستوى الثقافي، وكأن محرك التاريخ هو الثقافي أو الثقافي البحت!

ينتقل لمناقشة التربية المطبعة لدى فوكو، وغيره من ما بعد الحداثيين الذين يرونها تتضمن أكثر من الوعي الكاذب- الإيديولوجيا- عند ماركس (ص 122) لأن النظام حسب فوكو ينتج حقائق ثابتة، بالتربية المطبعة. فلا يمكن عند فوكو الفصل بين الواقع وأجهزة تمثيل الواقع. لكن نقد فوكو الحاد لماركس لم يحل دون سقوطه في استبدال الصراع الطبقي ـ ب "الصفح". والحقيقة أنه ليس غريباً على الكاتب أن يستبدل ماركس بفوكو، لأنه في التحليل الأخير يستبدل المادي بالمثالي ويستبدل الصراع الطبقي بغواية الصفح، وهو ما يريد الفلسطينيين أن ينتهوا إليه. هذا بدلاً من أن يقبل بموازاة المذبحة الممتدة التي قامت بها الصهيونية ضد الفلسطينيين بالمحرقة المكثفة من النازية. ففي كل ما قاله دريدا وفوكو عن المحرقة لم يتحدثوا عن محرقة الشعب الفلسطيني. أما الكاتب فأخذ منهم التركيز على المحرقة ولم يأخذ منهم تركيزهم على التسامح في أديان إبراهيم الثلاثة. هذا دون أن نغمز من قناة دريدا الذي رجع بالفلسفة إلى الأديان.
"التربية مسؤولة عن فبركة الانسان المطبع، بناء على هذا فبني البشر لا يولدون كمخلوقات مستقلة، بمعنى كاشخاص فاعلين، وانما يتم تصنيعهم/إنتاجهم رغم كل أبعاد خصوصيتهم في عملية لا أنسنة مركبة (ص139). بني البشر نتاج عنف خلاق. ابناء البشر هم ضحايا الجهاز وضحايا النظام الاجتماعي– الثقافي السائد والمسؤول عن امكانية وجودهم وعن السيطرة عليهم وتقييدهم. كما انه مسؤول عن انتعاشهم".

لعل النقاش في هذا المستوى هو باتجاه اين تصل ما بعد الحداثة في نقد التربية القائمة على برنامج مؤسسة الدولة التي تكرس عبودية تشعر بسعادة في عبوديتها؟ (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله....وأخو الجهالة في الضلالة ينعمُ - المتنبي). بعبارة أخرى، أين وصل ما بعد الحداثيين في مستوى تجاوز هذه المؤسسة وبلورة أداة التجاوز؟ ولماذا ظل نقدهم للدولة هو غالباً مثالياً ثقافوياً وأقرب إلى تجاوز الماركسية وليس الدولة؟

الفصل الأخير- التربية للسلام في عهد ما بعد الحداثة:
كثير من القضايا المطروحة في الكتاب، لم تُقل صراحة، وربما ساعد الكاتب على ذلك تغليفها بالغموضية الثقافية. لكن قناعة الكاتب اتضحت في هذا الفصل. فالتربية على المنفوية، تتضائل وتصغر لتصبح عبارة عن عش صغير لبعض النساء في حارة "الحليصة" في حيفا ليمارسن منفويتهن هناك لعدة ساعات من اليوم(ص 167). هنا يصبح المقصود بالمنفوية إنعزالا ما عن المجتمع النافي، لممارسة طقوس التعددية الثقافية بين المقموعات. ولا شك أن الكاتب يرغب أن تصبح هذه حركة تشمل جغرافيا أو حيز الاحتلال الأول (ص 1948).
هناك نماذج على الهروب من المجتمع النافي للفرد أو الجماعة والنظر إليه من بعيد، ومن ثم إما الشعور بلذة الأنعزال الفئوي عن ضوضاء المجتمع النافي أو الهجوم عليه وتدميره.

يصعد الوجودي أنطوان روكنتان في إحدى مسرحيات سارتر إلى بناية شاهقة ومنها ينظر من الأعلى إلى الناس حيث يرى عيوبهم، ويرفض نمط حياتهم. وهكذا اللامنتمي عند كولن ولسون. أما عند سيد قطب، فينعزل التكفيريون عن المجتمع الكافر، (التكفيرـ بمعنى أنهم يعتبرونه كافراً (لاحظ نظير النافي عند المؤلف) فيهاجروا منه ثم يهاجروا إليه للقتال فيه، لكي يعودوا ويسحقوا هذا المجتمع، ويرأيهم يعيدوه إلى الإسلام الصحيح.

نعود للكاتب ثانية، حيث يقول: "هناك أنصار كثيرون لهذا في العالم" اي للتربية على السلام في عهد ما بعد الحداثة.. تربية تقوم على خلق بديل للسلطة الابوية المكونة للقهر والحروب.. التربية المناصرة للمرأة مقدمة للتربية من أجل السلام.. على هذه التربية ان تصوغ وهما إيجابيا وقيما ثابتة وراسخة مساواة تضامن انسانية ديمقراطية".
بادئاً ذي بدء، لم يحدد المؤلف بوضوح من هو الذي سيحمل على كتفيه هذا المشروع الثقافي الذي سوف يتصدى لعبىء التربية على السلام، في مرحلة ما بعد الحداثة، والذي سيخلق بديلا للسلطة الأبوية التي تفرز القهر والحروب؟ كيف يمكن لهذا أن يحصل وبأية اداة، وهل سيقاوم القديم ذلك أم يرعاه، فهو نفسه بالضرورة والقطع! قد يصح القول أن التربية المناصرة للمرأة هي مقدمة للتربية من أجل السلام. ولكن أية امرأة؟ هل هي المرأة ألأثيوبية في إسرائيل، المرأة العربية، المرأة الأشكنازية، التي "تناضل" لتقود طائرة قاذفة مقاتلة، ورئيسة أركان جيش يتجهز لضرب طهران! فهاتيك النسوة مختلفات بل متصارعات حتى ثقافياً. حتى فيما بينهن فهن يمثلن حالة من التمفصل (وحدة وصراع). ووراء هذا الاختلاف/الصراع، أو لنقل ان هاتيك النسوة موجودات في نظام اجتماعي اقتصادي سياسي، في تشكيلة اجتماعية اقتصادية راسمالية معولمة بوضوح وبقصد وبمشروع واضح. وعليه، ما هو المشروع البديل الذي قد يجمعهن كنسوة؟

يرد الكاتب، بعبارة فضفاضة: "على هذه التربية أن تصوغ وهما إيجابيا وقيما ثابتة وراسخة مساواة تضامن انسانية ديمقراطية". "إذن وفسر الماء بعد الجهد بالماءِ". فعالم ما بعد الحداثة يعج بالحديث عن المساواة والتضامن والديمقراطية. ولكن، لو لم يكن الكاتب حداثياً، ما بعد حداثي برجوازي، لكان قد وصل إلى ما بعد الرأسمالية.

وحيث يتحدث الكاتب عن فريق من النساء يلتقين في مكان في حي قديم بمدينة حيفا، فإنه يرى الإشكالية التي تواجه هاتيك النسوة هي "الأبوية" وقد يكون في خاطره "الأبوية" الفلسطينية باعتبار أن الأبوية بشكلها التقليدي هي أكثر لدى "الأقلية القومية العربية في إسرائيل"، بينما هي في الوسط الإسرائيلي اليهودي أقل لأنها ابوية "حداثية" رأسمالية. يقول : "أما تجاوز الأبوية فبتربية تقوم على خلق بديل للسلطة الابوية المكونة للقهر والحروب".

وهكذا، لم يتعاطى المؤلف قط مع الأبوية الأخطر، اي سيطرة الذكورية الرأسمالية اليهودية المعولمة على الجميع. وربما لم يحصل هذا لأن اقتلاع الأبوية الرأسمالية يفترض البديل الوحيد وهو التغيير الإشتراكي. وبهذا العكوف عن تناول الرأسمالية، فإن ما يريده الكاتب هو تقويض "الأبوية الفلسطينية" وهناك يقف. هذا مع العلم أن الأبوية التي تخلق القهر والحرب هي الأبوية التي تملك وهي الأبوية المسلّحة بالجيش والنووي. سيكون جميلاً تجاوز المجتمع الفلسطيني للأبوية، ولكن ليس لانخراط هذا المجتمع في تشكيلة راسمالية أبوية إضافة إلى أن هذا الانخراط يطمح أن تنسى هذه "الأقلية العربية" ذاكرتها.

وأخيراً، رغم بعض التلميحات، فإن الكاتب ينسب لليهودية حالة فلسفية إنسانية صوفية لا تتواجد في الأديان الأخرى! الأمر الذي يمكن نفية بسهولة بالغة. فلم تخلق اليهودية متصوفة مثل قامات: ابن عربي.. الحلاج.. والسهروردي!! أما نقده لتطبيع الدولة، فينحصر بمشروع الكاتب في التعددية الثقافية في مناطق الاحتلال الأول، 1948. أي لمن هم "جغرافياً" داخل فلسطين المحتلة 1948، فلا حديث قط عن حق العودة، إضافة إلى تغاضٍ ثقافوي مطلق عن ما تقوم به "إسبارطة الأشرار" في مناطق الاحتلال الثاني. ما عرفناه من صفحات الكتاب هو تجاهل الكاتب لهذا الإحتلال. هل لأنه حصر نفسه في الاحتلال الأول، أم لأنه يرى في كل فلسطين "منفى" لليهود! فالتعددية الثقافية تعود بالفائدة القصوى على اليهود، لأن اليهودية منظومة فكرية صراعية، تتغذى من الصراعات التي تفتعلها مع الآخرين.

لقد اعتمد الكاتب ذاكرة جمعية تاريخية لليهود، حتى ولو بنقدها، لكنه تجاهل الذاكرة والحاضر الجمعي للعرب الفلسطينيين، والهوية المكتملة لهم والغائبة او المجزوءة للفلسطينيين. بين رؤية منفاهم، وتجاهل منفانا جدار فاصل لا يسمح قط لخليته الصغيرة في حيفا أن تتعايش، إلا إذا كان تعايشاً خضوعياً كما هو الحال في نموذج التعايش المنفوي في حي الحليصة بحيفا. وقد يكون هذا العَوَجْ لأن معالجة الكاتب من مدخل الثقافة وحدها. أو بقول آخر، لقد ابتعد المثالي البرجوازي عن المدخل المادي العملي الذي وَحْده مِبضع بزل كافة التقرحات المحتقنة في الكيان العنصري والتي ليست الثقافة إلا أحد تجلياتها. هذا بالطبع، ثمن إغفال المكون العالمي المادي الراسمالي لإقامة الكيان وثمن نفي وجوده كمكون لإسرائيل واللجوء إلى المدخل الثقافوي. كما هي الموضة البرجوازية عالميا.
من ناحية نظرية بحتة، فان الكاتب الذي يدعو للاعتراف بالآخر، يهمله عملياً حيث يضع البحث من أجل اليهود الذين يبدأ معهم من الخيالي المنفوي على صعيد عالمي، إلى أن يتقلص المنفى إلى منفى في الداخل، منفى يقوم على مكان الآخرين المنفيين، اي في فلسطين!. وهكذا يعود إلى المنفى الإستيطاني نفسه. نعم، "وهكذا يعود القس قسا!" كما كتب لينين عن الفيلسوف المثالي الذاتي بيركلي، حينما تأكد لينين من مثاليته.

بعبارة أخرى، يبدأ الكاتب بعرض خيار المنفوية لليهود طالما إن المشروع الصهيوني هو "إسبارطة أشرار"، والترفع عن وطن ودولة لكنه ينتهي إلى نموذج خيار تعايشي بين اليهود وبين قطاع من الشعب الفلسطيني ولا يعمم ذلك النموذج كما أنه لا يقول شيئا عن العرب، فهو حلم للنفس على حساب الآخر وليس اعترافا به، أو اعترافا بما طبعته عليه الدولة.

يبقى السؤال المركزي، والماقبل ثقافي وما قبل ما بعد الحداثي: أليس موضوع اليهودي الجديد هو توليد عصري هو حقيقة قيام المركز الرأسمالي بتوليد هذا اليهودي الجديد؟ مجسداً في خلق اسرائيل بتمكينها من التفوق التسليحي سواء الراسمالي او العسكري؟ وهل كان لها أن توجد بدون الإستعمار؟ فلماذا كل هذا التهويم الصوفي اليهودي أو غير اليهودي لا فرق؟ قد تشكل هزيمة اسرائيل في لبنان مادة لإعادة تقييم "إسبارطة الأشرار"، بمعنى: كيف سيكون التقييم بعد أن اصبحت هزيمة إسبارطة ممكنة؟