عند بعض البعثات الدبلوماسية الغربية كلام مفاده أن الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصر الله قد رفع السقف، ومعه الخطاب السياسي العالي النبرة، بعدما قررت الحكومة ومعها الأكثرية النيابية التوجه ناحية الأمم المتحدة ومجلس الامن لإقرار المحكمة.

ثمة إضافات منها: أن الحكومة فشلت في تمرير المحكمة عبر القنوات الدستورية، وفشلت الجهود التي بذلت لإحالة مشروع القانون الخاص بها الى المجلس النيابي، وإن المجلس لم يتمكن من عقد جلسة على الرغم من مرور ثلاثة أسابيع على بدء الدورة العادية، وفشل القمة العربية سواء إراديّا وعن سابق تصوّر وتصميم، أو عمليّا وعلى الرغم من دقّة التصوّر والتصميم، من إيجاد مقاربة مقبولة لاحتضان الأزمة، وفشل المحاولات الخجولة ـ والدؤوبة في آن ـ في تفعيل الحوار اللبناني ـ اللبناني، والأخذ بمرفقه كي يبلغ الخواتيم النهائية... وكانت المحصلة لهذا المسلسل من تراكمات الفشل، السير قدماً باتجاه مجلس الامن بهدف «تفويضه» باتخاذ ما يلزم من إجراءات لإقرار المحكمة.

يخفي التصعيد الاعلامي بين فريقي الموالاة والمعارضة مجموعة من الأغراض. تريد الأخيرة رفع الصوت عالياً لعل في مجلس الامن من ينصت ويسمع ويعتبر أن في لبنان فريقاً يعترض على ما أقدمت عليه الحكومة، مدعومة من الاكثريّة النيابيّة، في حين أن الموالاة بررت التصعيد «لحماية جنين المحكمة في مجلس الامن، وتمكينه من أن يبصر النور بولادة طبيعيّة، إذا أمكن، كبديل عن ولادة قيصيرية شبه مضمونة، وفق ما توحي به التأكيدات الصادرة عن الإدارة الأميركيّة، وقصر الأليزيه، وبعض عواصم دول القرار؟!».
ويبقى باب الاجتهاد مفتوحاً حتى في علم القانون الدولي حول المسار الذي يمكن أن تسلكه العريضة النيابية لبلوغ عتبات مجلس الامن.

أولا: ليست هي الوثيقة التي ستعتمد، بل الرسالة الصادرة عن الحكومة، كونها تشكّل المستند الاساس الذي سيرتكز عليه العقد الذي لا بدّ من أن يبرم بين الامم المتحدة ولبنان عند تشكيل المحكمة، وبالتالي فإن الرسالة تستند الى العريضة كي تكتسب المزيد من المصداقية والشرعيّة أمام المجتمع الدولي.

ثانيّا: إن الرسالة تتضمن طلباً رسميّا بالتمني على مجلس الامن إنشاء المحكمة، وإن هذا الطلب (الرسالة) أرفق بالعريضة النيابية، بهدف إضفاء المزيد من المصداقيّة والشرعيّة على أدائها وتصرفاتها.

ثالثا: إن الامين العام بان كي مون يفترض به أن يحيل حكماً الرسالة والعريضة على الدائرة القانونيّة في الامم المتحدة لوضع مطالعتها. لكن كلمة السر الرائجة في بيروت تؤكد أن الموضوع من ألفه حتى يائه هو سياسي بامتياز، وإن الإدارة الاميركيّة، ومعها فرنسا وبعض الدول الكبرى الدائمة العضوية بوسعها «تركيب أذن الجرّة أنّى تشاء، وحيث ما تريد؟!»، وهذا يعني أن السياسي سيتقدم على ما هو قانوني، طالما أن الساحة اللبنانية قد تمتّ مصادرتها دوليّا مع صدور القرار 1559عن مجلس الأمن منذ مطلع أيلول ,2004 حيث تدخل في تفاصيل الشؤون الداخلية، وتحدث عن الانتخابات الرئاسية، وعن سلاح «حزب الله»، والسلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها، والانسحاب السوري من لبنان الى سائر مواضيع وقضايا اخرى جاء على مقاربتها في بنوده ومضامينه.

والمثير للقلق، هو ما تقدمه بعض الدوائر الدبلوماسية الغربية من مقاربة للواقع المستجد انطلاقا من الآتي:
أولا: إن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تحظى بأوسع تغطية دوليّة، إسلاميّة، عربية (بعد قمة الرياض، والموقع الممتاز والمميز الذي احتله السنيورة في قاعة الملوك والرؤساء والأمراء)، قد وضعت هذه التغطية على محك الجديّة لاختبار معدنها، وهل هي لفظيّة ـ معنوية فقط، أم عمليّة؟... إن الجواب في عهدة مجلس الأمن؟!

ثانيا: إن ذهابها الى المنظمة الدولية لمطالبتها بإنشاء المحكمة ما كان ليتم لو لم تكن هناك موافقة عربية ضمنيّة، أو تلاقي مصالح.

ثالثا: إن التوجه الى نيويورك يعني التخلي عن بعض من السيادة، ومن الصلاحيّات المناطة بالمؤسسات الدستورية اللبنانية لصالح المجتمع الدولي، كما يعني تعريض هذه الساحة أكثر فأكثر الى صراع المحاور والمصالح، من دون أن يكون للبنانيين القدرة على الإمساك بزمام الأمور، والتحكّم بالنتائج والتداعيات.

رابعا: إن المسار الذي اختير للمحكمة أن تسلكه لا يزال غير مضمون الجوانب والنتائج، خصوصا أن التوافق المطلوب بين الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية وصاحبة حق النقض (الفيتو) لم يتبلور بعد بشكل واضح، في الوقت الذي تؤكد فيه كلّ من روسيا والصين على ضرورة أن تحظى المحكمة بتوافق لبناني ـ لبناني حتى لا تتحول الى سبب إضافي لتعميق الانقسام وتفاقم التشرذم في صفوف المجتمع اللبناني، واستبدال وحدة الارض والشعب والمؤسسات بصيغ تقسيميّة تفتيتيّة سبق أن ظهرت إبّان سنوات الحرب القذرة وتمّ تخطيّها بعد التوافق الوطني في الطائف على الطائف؟!

خامسا: إذا كان بعض الغرب يريد توظيف المحكمة سياسيّا لخدمة مصالحه وخياراته، واستغلالها كأداة لإحداث تغيير في السلوك السوري تجاه العديد من الملفات الساخنة المفتوحة بدءا من إيران وملفها النووي، الى العراق، الى الخليج، وصولا الى فلسطين وربما الصومال ودارفور، فلماذا يجب أن يكون ذلك على حساب لبنان؟ ولماذا على لبنان أن يدفع الثمن والضريبة؟ ولماذا لا تقدم الإدارة الاميركيّة ومن معها على تجنيب لبنان وعلاقاته الحساسة مع سوريا التداعيات المدمّرة، واعتماد بدائل ووسائل أخرى وهي كثيرة، وتعرفها جيدا؟!

... وتذهب هذه المرجعيات الدبلوماسية الى الأبعد في تساؤلاتها، لكنها تكتفي بالتشديد على ملاحظتين بالغتي الاهميّة:
الاولى: ان القمة العربية قد تخلّت عن مسؤولياتها في احتضان ورعاية الملف اللبناني المعقد، أو ـ وهذا الأصح ـ تمّ كفّ يدها من قبل أصحاب الحول والطول في المجتمع الدولي كي تتولى الإرادة الأميركيّة ـ الغربية زمام الامور في ترتيب شؤون البيت اللبناني الداخلي وشجونه وفق مقتضيات استراتيجيتها ولعبة مصالحها.

والثانية: ان لبنان على موعد وشيك مع بيان رئاسي عن مجلس الامن حول القرار ,1701 وعلى موعد مع لجنة دولية لتقصي الحقائق عند الحدود اللبنانية ـ السورية، تحت شعار التثبت من تهريب السلاح والمسلحين؟!... وهذا أول الغيث، وبداية المخاض لمسار عسير من العلاقات المأزومة بين البلدين «الشقيقين الشقييّن؟!».

مصادر
السفير (لبنان)