اليوم الخميس الثاني عشر من نيسان (ابريل)، يقف الدكتور إبراهيم سليمان رجل الأعمال الاميركي ـ السوري الأصل ـ أمام لجنة العلاقات الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، حيث تعقد اللجنة جلسة خاصة لمناقشة كيفية عقد مفاوضات سلام سورية ـ إسرائيلية ناجحة. ستخصص الساعة الأولى لمناقشة ما انجزته المفاوضات غير الرسمية التي شارك فيها الدكتور سليمان عن الجانب السوري، والدكتور آلون لييل عن الجانب الإسرائيلي، طوال السنوات القليلة الماضية، أما بقية الجلسة فستكون مغلقة لأعضاء اللجنة فقط.

هذا الأمر ليس بجديد، إذ أن الرئيس السوري بشار الأسد كان أكد في حديث إلى صحيفة «الجزيرة» السعودية في 19 من الشهر الماضي، أن بلاده دأبت طوال السنوات الماضية على إجراء مفاوضات سرية مع إسرائيل، «لكنها لم تؤد الى نتائج ملموسة بعد».

احداث كثيرة جرت خلال الأسابيع الماضية أوحت بأن وضع سوريا في الشرق الأوسط اختلف اليوم عما كان عليه العام الماضي.

قبل بيلوسي، قام منسق السياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا بزيارة دمشق ولقاء الرئيس السوري. وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية السوري وليد لمعلم سبق اللقاء، قال سولانا: «إن الاتحاد الأوروبي يرغب في مساعدة سوريا لاسترجاع هضبة لجولان»، ثم أضاف: «إن على سوريا أن تبذل جهداً اكبر لتخفيف تأزم الأوضاع في لبنان والعراق».

مصدر اميركي أكد لي، ان بيلوسي ما كان يمكن أن تقوم بزيارة دمشق من دون موافقة «ايباك»، وهي بعد لقائها الأسد قالت: «سعدنا بالتأكيدات التي حصلنا عليها من الرئيس السوري بأنه على استعداد لاستئناف عملية السلام، وانه مستعد للتفاوض حول السلام مع إسرائيل».

في ظل هذه التطورات، تعدل سوريا من سياساتها الخارجية كي تظهر أنها قادرة على لعب دور مهم يضمن الاستقرار في الشرق الأوسط. وقد تزامن إطلاق سراح البحارة البريطانيين الخمسة عشر، الذين اختطفتهم إيران من شمال الخليج اثناء زيارة بيلوسي. وقبل مغادرة بيلوسي لدمشق قال وليد المعلم في مؤتمر صحافي إن بلاده توسطت مع ايران لإطلاق سراح البحارة، وان المندوب الخاص لطوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السير نيجل شينولد اتصل بالرئيس الأسد لهذا الهدف.

المعلم في تصريحاته، أراد إظهار مدى تأثير سوريا على إيران، لكنه لم ينتقد إيران التي خطفت البحارة من المياه الإقليمية العراقية في شط العرب.

من كل هذا، تأمل سوريا في أن تعترف الدول المعنية بمصالحها الحيوية في لبنان، كما في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وفي العراق. فإذا فعلت، فان دمشق على استعداد للمساهمة في تحقيق الاستقرار في العراق. فهي تعرف، أن العراق يبقى في طليعة اهتمامات الرئيس بوش، فإذا نجحت الخطة الأمنية الأخيرة في العراق من الآن وحتى نهاية الصيف، يمكن ن تخف الضغوط عن الرئيس بوش، أما إذا فشلت، فان عدداً من المسؤولين الجمهوريين سيبدأون في القفز من السفينة.

يبقى لبنان هو عقدة العقد. إذ لم تغفر دمشق لنفسها الارتباك الذي أصابها اثر اغتيال رفيق الحريري، والانسحاب المذل لقواتها من كل لبنان، رغم أن عدداً من حلفائها الرئيسيين في لبنان، حاولوا ثنيها عن ذلك.

اللبنانيون حتى اتباع حلفائها، لا يريدون عودتها إلى لبنان. إذ لم ينس الذين كانوا ضدها ما فعله الوجود السوري في لبنان والذي طال ثلاثين سنة، أما الذين بقوا مخلصين لها، فإنهم يفضلون التنسيق معها والاستمتاع بالادعاء بأنهم «أسياد أنفسهم»، إن كان في توزيع الأموال، او في الاعتصام أو في الاستقالات المعلقة أو عدم فتح أبواب البرلمان لعقد الجلسات العادية المقررة، على أساس ان اتفاق الطائف، سلم «مفتاح البرلمان» لرئيسه فقط.

وما يثير السخرية، انه في الوقت الذي يبقى البرلمان اللبناني موصداً أبوابه في وجه النواب ويمنع عقد جلسات برلمانية، تستعد سوريا لإجراء انتخابات برلمانية في الثاني والعشرين من هذا الشهر!

والآن إذا لم يتم الاعتراف الدولي لسوريا بمصالحها، فإنها سوف تستأنف تفعيل اللااستقرار في المنطقة، ولا تتفق كافة الدول العربية على دعم من تدعمه سوريا في لبنان. فالمملكة السعودية ومصر مثلاً تدعمان حكومة فؤاد السنيورة التي تحاول المجموعات المدعومة من سوريا إسقاطها. والخطوات السورية في لبنان تتنقل على إيقاع التطورات الدولية، وبالذات الانتخابات الفرنسية. فالرئيس السوري يريد «إيقاف الزمن» وتأخير أي تصويت لبناني يرمي الى اقامة المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري، بانتظار مغادرة الرئيس الفرنسي جاك شيراك قصر الاليزيه، وتأمل سوريا في أن يتخذ الرئيس الفرنسي المقبل سياسة أكثر مرونة تجاهها. لذلك ترغب دمشق، عبر وسائل ومواقف داخلية لبنانية إبقاء مسألة المحكمة الدولية في حالة مراوحة تضر بلبنان أيما ضرر.

يطمئن الفرقاء اللبنانيون بعضهم البعض، بأنهم لا يسعون إلى حرب أهلية، إنما فقط إلى تعميق حالة الشلل في البلد. هذه الحالة تشبه ناراً هادئة، إنما مستمرة في أكلها الأخضر واليابس، فتوفر بذلك لسوريا عودة سيطرتها على لبنان.

إن المصلحة السورية من استعادة السيطرة على لبنان تؤمن لدمشق الحفاظ على وضع إقليمي قوي خصوصاً داخل الدول العربية. لكن الدول العربية، رغم المصالحات الشكلية تتهم سوريا بأنها عنصر جيو ـ سياسي في الأيدي الإيرانية، في وقت صارت إيران مصدر قلق لدى الكثير من هذه الدول وبالذات الخليجية.

في المسألة الفلسطينية ترغب دمشق أيضا في التلاعب على الوقت. لقد لعبت دور الوسيط واستعملت نفوذها على الزعيم السياسي لـ«حماس» خالد مشعل المقيم لديها، من اجل التوصل إلى حل تشكيل حكومة وحدة وطنية. بقيامها بهذا الدور تجنبت سوريا أن تطالها تهمة زعزعة الاستقرار في المنطقة، لكن في الوقت نفسه، ظلت مصالحها ذاتها بالنسبة الى هذا الصراع. فهي ستظل تعمل لعدم توصل الفلسطينيين والإسرائيليين إلى حل، طالما انها لم توقع اتفاق سلام مع اسرائيل. ومع عدم وجود اتفاق بين اسرائيل والفلسطينيين تظل دمشق قادرة على استعمال الورقة الفلسطينية عندما تتفاوض مع اسرائيل على استرجاع الجولان.

ولسورية مصلحة في استغلال الفوضى في العراق للضغط على الولايات المتحدة خصوصاً في ما يتعلق بدعم التمرد السنّي فيه. وحسب الحسابات السورية فان طريقة توجهها هذه هي وسيلة لإقناع واشنطن بالاعتراف بمصالح سوريا في المنطقة، وأبرزها، أن توافق واشنطن على النفوذ السوري في لبنان، والضغط على إسرائيل لإعادة الجولان، والمحافظة على وحدة الأراضي العراقية وضمان ألا يكون العراق الجديد دولة معادية، وأخيرا أن تتخلى واشنطن عن تبني خطة تغيير النظام في سوريا.

ان هذه السياسة السورية مليئة بالمخاطر، فمساهمتها في زعزعة الاستقرار الأمني في العراق تزيد من تدفق اللاجئين العراقيين على أراضيها، إذ ليسوا جميعهم قادرين على إنفاق الأموال وتشجيع الاقتصاد السوري، رغم ان مجيئهم ضاعف من ثمن الشقق والمكاتب. ثم ان بقاءهم في سوريا سيكون مصدر قلق لدمشق، حتى يستقر الامن في العراق.

على كل، إن تفجر العراق وإمكانية تقسيمه خطر على وحدة الأراضي السورية واستقرارها الداخلي. ثم إن إقامة دولة سنّية وسط العراق يلتقي فيها الجهاديون، لا بد لاحقاً من ان تهدد وبشكل مباشر امن النظام السوري. يضاف إلى ذلك، إن كردستان مستقلة في شمال العراق ستشجع على حس الانفصال عند اكراد سوريا الذين يعانون من الاضطهاد منذ سنوات.

وقيام دولة شيعية في جنوب العراق يتغلغل فيها النفوذ الإيراني سيُنظر إليها على أنها تهدد التوازن الإقليمي وتنعكس سلباً على المصالح السورية.

من المؤكد، ورغم التحالف الاستراتيجي مع إيران، ان سوريا لا تريد نفوذاً إقليميا متزايداً لإيران. فبروز دولة كبرى وسيطرتها إقليميا ليس من مصلحة سوريا، ذلك أنها تفضل «توزيعاً إقليميا متساوياً» يضمن لها القيام بدور اكثر فعالية في المنطقة.

من هنا، فان التحالف السوري ـ الإيراني يبقى عند سوريا تحالفاً تكتيكياً، هذا إذا ما بقيت قادرة على التحكم به، كذلك الحال في علاقاتها مع الأحزاب الراديكالية في المنطقة مثل «حزب الله» في لبنان و«حماس» في فلسطين. ويرى بعض العارفين السوريين، إن الأسد عمّق من علاقات سوريا بهذه المجموعات بهدف مقاومة الضغوط التي تعرض لها اثر اغتيال رفيق الحريري، وهو على استعداد لإظهار بعض المرونة إذا خفت الضغوط الدولية عليه.

لكن في المحصلة، تبقى الأهداف السورية كما هي. وإذا عادت المحاولات لعزل سوريا فان دمشق مستعدة فوراً للقيام بدور «المزعزع»، كما تثبت الأزمة المستمرة في لبنان منذ العام الماضي، ويقول هؤلاء: «إذا استمرت الوفود في زيارة دمشق والحديث مع المسؤولين هناك، فمن المحتمل أن تخفف من علاقاتها مع إيران و«حماس» و«حزب الله» أيضا».

هناك عاملان أساسيان لا يتغيران في سوريا، مهما تغيرت أنظمتها او سياساتها: الأول: بسط نفوذها على لبنان والثاني: معرفة تحويل كل أزمات المنطقة إلى فرص للاستفادة.

فهل يتنبه اللبنانيون لهذا الواقع قبل أن يسأم من مشاكلهم العالم ويقول لهم، إنهم بحاجة إلى «حَكَم خارجي»، ويكون هذا الحَكَم... سوريا ما غيرها؟

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)