يقول المفكر القبطي الدكتور ميلاد حنا أنه لو كانت الانتخابات التشريعية الأخيرة في مصر انتخابات نزيهة، لفازت جماعة الاخوان المسلمين بأغلبية المقاعد. وفي الجزائر اجهضت التجربة الديموقراطية وتم الاعلان عن جبهة الانقاذ الاسلامي التي فازت في الانتخابات كحزب محظور، وواضح تماماً أن التجربة ستتكرر لو أجريت الانتخابات في معظم الدول العربية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يجعل الأنظمة تنقلب على النتائج التي تفضي اليها صناديق الإقتراع، سواء بالالغاء التام، أو بالتزوير؟. أن دول العالم التي تنعم حالياً بأنظمة ديموقراطية راسخة لم يتسنى لها التمتع بأعراف تحترم ارادة الشعوب إلا بعد أن مرت مجتمعاتها بمخاضات صعبة وضعت في النهاية الأنظمة الديموقراطية، لقد سبق ارساء النظام الديموقراطي الامريكي حرب اهلية طاحنة، وفي أوروبا الغربية كانت هناك تضحيات كبيرة قدمها رجل الفكر والتنوير قبل تخليص مجتمعاتهم من سلطان الكنيسة والأسر الحاكمة الظلامي، ولم تتحول دول أوروبا الشرقية الى أنظمة ديموقراطية الا بعد أن انتفضت الشعوب وأعلنت بشكل لا يقبل التأويل أنها لم تعد قادرة على العيش على هذا النحو، فكانت حركات التمرد المدني والتظاهرات العارمة للمطالبة بالديموقراطية، عندها فقط أدركت الأنظمة الشيوعية الحاكمة أنه يتوجب احترام ارادة الشعوب واخلاء السلطة لمن يختارهم الشعب في انتخابات نزيهة. وبدون هبة هذه الشعوب الحية، لتم تزوير ارادتها، كما يحدث في عالمنا العربي.

أن الدول التي تتمتع بالأنظمة الديموقراطية لم يتسنى لها ذلك، إلا بعد أن استطاعت عبر تضحياتها فرض عقد اجتماعي جديد يلتزم فيه الحكام باحترام ارادة الجمهور. وفي العالم العربي بدون أن يتم التوصل لهذا العقد الاجتماعي، فأنه لو حدثت انتخابات كل ساعة، لتكررت التجارب التعيسة. واضح تماماً أنه عندما يترك للشعوب العربية الحرية في القرار فأنها تختار التغيير، ولا تختاره لمجرد أنه يأتي بالإسلاميين، فلو قدر للاسلاميين أن يحكموا وفشلت تجربتهم لعاقبتهم الجما هير بإقصائهم مرة أخرى وقد تختار هذه الشعوب مرة أخرى الأحزاب التي كان يرأسها الطواغيت بعد أن تكون قد استفادت من تجاربها السابقة. لقد حدث هذا مع العديد من دول اوروبا الشرقية التي أعطت الفرصة للأحزاب الاصلاحية الليبرالية لكي تحكم، وبعدما تبين أن حكومات هذه الأحزاب فشلت، عادت الأحزاب الشيوعية الى الحكم، ولكن هذه المرة عبر صناديق الاقتراع.

فالمواطن العربي من الخليج الى المحيط يحلم بالتغيير، وطي هذه الصفحة السوداء من تاريخه، لكنه يحلم فقط ، ولا يمكن ان يؤسس الحالمون لتغيير جوهري، ما لم يتبع بجهد عملي للتغيير، لا احد يكلف نفسه اخذ زمام المبادرة للتغيير، مع أن الجميع يعي أنه بدون تغيير انظمة الحكم لا يمكن أن يتغير هذا الواقع مطلقا، وللأسف فأن التجربة قد دلت على ان الحركات السياسية المعارضة في العالم العربي تعاطت بشكل فاشل مع هذه الانظمة في سعيها للتغيير ، فإتجاهها للتغيير عبر الوسائل العسكرية والعمل السري فشل و ثبت انه افاد الانظمة ولم يؤثر عليها، بل ان التجربة دلت على ان الانظمة قد استفادت من وجود هذه الحركات لقطع الطريق على أي حركات اخرى غير عنيفة للمطالبة بالحقوق الاساسية للانسان العربي، وعلى رأسها حقه المطلق في المشاركة في صنع القرار الوطني لبلده ، والوسائل العنيفة الوحيدة التي نجحت كانت الانقلابات العسكرية، و كانت كمن يستعين بالرمضاء من النار، حيث ادت الانقلابات العسكرية الى تحويل اوطان العروبة من سجن مهاجع الى سجن انفرادي، ومن عبودية الى رق، مع تبديل السلاسل والسيد. آن الاوان أن تتبلور أنماط اخرى في السعي للتغيير في عالمنا العربي، آن الاوان ان يتجه المواطن العربي للتغيير غير العنيف في مواجهة الحكام، لأن هذا اجدى وانفع في التغيير.

دور الجمهور هو الاقوى في التغيير، هذا ما يعلمنا اياه التاريخ المعاصر، من الذي وضع حد لقوانين التمييز العنصري في الولايات المتحدة، لقد كانت سيدة سوداء تدعى روزا باركس في العام 1955، حيث كان القانون الامريكي ينص على انه في حافلات الركاب على السود اخلاء مقاعدهم في حال كان هناك شخص ابيض يريد الجلوس، رفضت باركس اخلاء مقعدها للرجل الابيض ، وعلى الرغم من انها قد أهينت في بادئ الامر، الا أن اجراءها هذا قد كان البداية التي سمحت بقبر قوانين التمييز العنصري في الولايات المتحدة مرة وللابد، حتى ان الحافلة التي شهدت هذه الواقعة بيعت كقطعة اثرية بمبلغ 492 الف دولار. وكيف تمكن الشعب الايراني التخلص من الشاه الذي كان احد اعتى الطواغيت في العالم، لقد كان يوم الثامن من اغسطس من العام 1978 عندما نظم انصار الخميني مسيرة سلمية ضمت مئات الالاف، قام عسكر الشاه بقتل 4650 مواطن ايراني في اقل من ساعة من بينهم ستمائة امرأة، ومع ذلك فأن كل ما فعله الايرانيون في هذا اليوم المشهود هو قيام كل متظاهر بوضع ورود في فوهات بنادق الجنود وقالوا للجندي " ايها الجندي الايراني لا تقتل اخاك "، فلم تكن لحظات حتى انتصرت الثورة الايرانية بقيادة الخميني وفر الشاه هائما على وجهه.

المهم أن يتبلور جهد عملي للتخلص من الاستبداد في عالمنا العربي، فحسب عبد الرحمن الكواكبي فإن الامة التي لا تشعر بالآم الاستبداد لا تستحق الحرية. و كما تقول زينب حنفي فان حال الشعوب العربية مثل هذا المحب ، اتكالية لا تجيد الا لغة النواح ، تستجدي عطف الاخرين ليهبوا لنجدتها من منطلق نصرة الضعيف، لا من منطلق القناعة بان لها حقا ملزما.. قصارى القول : الاتكاليون لا مجال اماهم حتى الحلم بالافضل !!!.علينا أن نؤمن أن أحداً ليس له الحق في مصادرة حقنا كعرب في صنع القرار الوطني والقومي في بلداننا، علينا ألا نعطي توكيل لاي زعيم عربي مهما مثل من رمزية لأن يتصرف بنا كيفما يشاء، بحيث لا يسأل عما يفعل وهم يسألون !! علينا كعرب ان نشعر بالحرقة عندما يعيش كل الناس احراراً في أوطانهم بينما نحيا نحن في اوطاننا اسرى الخوف والغربة، لكن لا بديل عن العمل وليس التمنيات من اجل التخلص من هذا الواقع. يذكر الكاتب محمد حسنين هيكل في احدى مقالاته ان المندوب البريطاني كرومر في العام 1919 دعي لحضور احدى حفل زفاف بحضور الزعيم المصري سعدي زغلول، وكان الجميع يستمعون لاغنية مشهورة في ذلك الزمن ، يقول مطلعها " حبيبي راح ، هاتوه لي يا ناس ..... " ، فدفع الفضول كرومر ان يعرف ترجمة مطلع هذه الاغنية، وعندها علق قائلا وقد استبدت به الدهشة .... " حتى في الحب لا يكلف المحب عندكم خاطره للبحث عن حبيبه ، ويطلب من الناس ان يجيئوا بها اليه " .