هل لنا أن نتلمّس بذور تعارض بين نظرة لبنانيّة الى لبنان، تمثّلها حكومة فؤاد السنيورة وقوى 14 آذار، ونظرة اليه، عربيّة وغربيّة، يتعاطف أصحابها مع حكومة السنيورة و14 آذار.

الجواب: نعم، في أغلب الظنّ.

ذاك أن القوى الأولى تنطلق من لبنان وما حلّ فيه، فتمحور جهدها حول «المحكمة» التي، باقتصاصها من قتلة الحريري وباقي الضحايا، تنتصر لـ»الحقيقة» وتقلّص فرص القتل أداةً في فضّ النزاعات. وهذا مطلب فاضل ومحقّ طبعاً ودائماً، إلا أنه قد يكون أقرب الى المثال الذي يفيض عن الواقع واحتمالاته.

صحيح أن في العالم العربيّ وفي الإدارة الأميركيّة والرئاسة الفرنسيّة أصواتاً مؤثّرة ترى رأي 14 آذار، لكن التعويل على جاك شيراك الذي يحزم حقائبه، وعلى جورج بوش تالياً، ينبغي ألاّ يحول دون رؤية المجاري الأعرض والأبعد مدى لصناعة القرارين السياسيّين الغربيّ والعربيّ المحافظ.

وفي هذا الإطار، تجدّد المحكمة خوفاً من سورية وخوفاً على سورية تندرج تحتهما عناوين عدّة: ماذا إذا انفرط عقد السلطة الدمشقيّة تحت وطأة الضغط بالمحكمة، وماذا لو امتدّ الانهيار من السلطة الى المجتمع (وللتوّ «احتفلنا» بالذكرى الرابعة لحرب العراق)؟ ثم ماذا عن إمكان فكّ سورية عن التحالف مع إيران؟ وهل يجوز أن تُتاح لأعداء المحكمة فرصتهم كي يشعلوا لبنان من جديد، وهم، كما هو جليّ، على أتمّ الاستعداد لذلك فيما لا يوجد الطرف اللبناني الذي يستطيع الحسم؟

في المقابل، قد يذهب التفكير الآخر، وفي الخلفيّة زيارة نانسي بيلوسي لدمشق بعد تقرير بيكر – هملتون، والانفراج النسبيّ في العلاقات السوريّة – العربيّة إثر قمّة الرياض، مذهب الرهان على مكاسب إقليميّة لا يرقى اليها شكّ. فالمداولات المداورة حول تجديد المساعي السلميّة بين دمشق وتل أبيب، تنتقل على يد ابراهيم سليمان الى محطّة أعلى. وهذا، في حال تقدّمه، تطوّر يتعدّى الأحداث الموضعيّة على أهميّتها. ثم ان احتمال التعاون السوريّ في العراق، وكذلك احتمال المساهمة، بعد فضّ الشراكة مع إيران، في نزع سلاح حزب الله، عناوين مغرية جدّاً دوليّاً وإقليميّاً، تبهّت الإغراء الذي تنطوي عليه المحكمة. هكذا يتأسّس وضع إقليميّ يمكن أن يصار معه الى تعبيد الطريق أمام سلطة لبنانيّة تكون فيها لسورية حصّتها، من غير حضور عسكريّ مباشر طبعاً، فيما تتجسّد الحصّة هذه بسياسيّين لبنانيّين هم جزء من التركيبة التقليديّة، وبقوى صار انتسابها الى التيّار السياسيّ العريض والرسميّ تحصيل حاصل.

وهي، بالتأكيد، عناصر غير مضمونة لأن ما من شيء يُضمَن مع الأنظمة العسكريّة، ولأن التعارض بين نمط الحكم البعثيّ والنمط اللبنانيّ شبه الديموقراطيّ هو من طبيعة الأشياء. لكنْ في الحالات جميعاً لا يكون مطروحاً إرجاع لبنان الى العهدة الأمنيّة والعسكريّة السوريّة، كما لا تكون دمشق الطرف الوحيد، ولا الطرف الأوّل، في التأثير بمجريات الحياة اللبنانيّة. فوق هذا، وفي حال صحّة التكهّنات حول تعدّد الأجنحة في دمشق، يصير التعامل معها مدخلاً الى تحريك التناقضات في ما بين أجنحتها تلك. وتحوّل كهذا يربك جوّ «الممانعة» التي تسند ظهرها الى حائط دمشق، سيّما إذا غيّرت الأخيرة رأيها في ما خصّ سلاح حزب الله.

قد يقوم سيناريو كهذا، يقايض المحكمة بتعديل الموقع الاقليميّ، على حساب العدالة، إلا أنه حكماً في صالح الاستقرار، خصوصاً أن الانتحاريين يتزايدون كالفطر في المنطقة وقد تعجز الحدود، أية حدود، عن وقف تمدّدهم. فإذا ما تحوّل تردّي العلاقات التركيّة – الكرديّة الى مواجهات في شمال العراق، تقلّصت فرص ضبط المنطقة على إيقاع يحاكي النفوذ والمصالح الغربيّة.

وقد يُرى تحوّل محتمل كهذا، منظوراً اليه من زاوية إقليميّة تتجاوز لبنان، انتصاراً لما مثّله لبنان وما مثّلته تحديداً الحريريّة الساعية الى مناخ من السلم والاستقرار عابر للحدود الوطنيّة. ولربما كان في هذا بعض العزاء!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)