بُعيد الظهر في أحد الايام الشتوية من عام 2005 نزل في مركز كتسرين ضيف اجنبي. هذا الشخص كان مصحوبا بصديق اسرائيلي وطلب الالتقاء مع المستوطنين هناك. أحببت الناس هناك جدا، هم لم يعرفوا من أنا، وتحدثوا بصورة حرة ، قال في هذا الاسبوع في ملحق السبت. سألتهم: اذا كان هناك اتفاق وعاد الجولان الي سورية، فماذا ستفعلون؟ بعضهم قال لي انهم مستعدون للمغادرة مقابل السلام، ولكن نحو نصفهم قالوا: نحن سنكافح ضد ذلك.
سألت أحدهم: كم يساوي بيتك؟ رد علي بما رد. قلت له: واذا أعطوك مبلغا مضاعفا، فهل ستغادر؟ رده كان بالايجاب. أي أنه لا يملك علاقة قوية بالارض، لا دينية ولا تاريخية. قلت له: كل الاحترام لك .
الضيف كان ابراهيم (إيب) سليمان، المحاضر في الهندسة والمواطن السوري المقيم في واشنطن. في تلك الايام كان ابراهيم سليمان قناة اتصال سرية بين القيادة السورية وبين مجموعة اسرائيلية برئاسة الدكتور ألون ليال، حيث كانوا يجرون معه مفاوضات غير رسمية حول السلام بين اسرائيل وسورية. سليمان طلب التعرف عن كثب حول ما يحدث في الجولان. سجلات الضيف السوري من زيارته في عاصمة الجولان نُقلت الي صديقه الطيب في دمشق، وزير الخارجية وليد المعلم. ليست هذه بالمرة الاولي التي يتلقي فيها المعلم رسائل من اسرائيل. في السنة الأخيرة زار ديوانه عدد من الوسطاء والمبعوثين الذين يحملون رسائل شفوية من مستويات مختلفة في القدس أو بعض الهدايا الجميلة من أنصار السلام في اسرائيل. ولكن كل هذه الجهود المصحوبة احيانا بلهجة دافئة ودية من الجانبين لا تنجح في اخراج الحكومتين الخائفتين من المس الذي أصابهما.
في يوم الثلاثاء من هذا الاسبوع نزل سليمان مرة اخري ضيفا علي اسرائيل. هو جاء بدعوة من لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست التي ظهر أمامها بالأمس حتي يُحدث اعضاءها بصورة مفصلة عن مسار الاتصالات. اليوم بعد الظهر سيعود الي عائلته في واشنطن. خلال هذه الايام الاربعة زار مؤسسة يد واسم لضحايا النازية وأجري مقابلات مع الصحافة الاسرائيلية والاجنبية والتقي مع اعضاء منتدي مبادرة السلام الاسرائيلية ـ السورية، المجموعة الديناميكية التي شُكلت قبل شهرين. في صفوف هذه المجموعة يوجد الكاتب سامي ميخائيل ورئيس الشاباك الأسبق يعقوب بيري وأمنون ليبكين شاحك والدكتور ألون ليال ورجال اعمال مثل دافيد ساسون وبرونو ليندسبيرغ.
ثمانية لقاءات
توصلنا الي اقتراح ممتاز، يقول رجل الاتصال السوري عن المفاوضات مع الاسرائيليين، كتبنا وثيقة ناجعة قد تكون مرضية جدا لاسرائيل ولسورية. أنا آمل أن تُستخدم هذه الورقة من قبل الجانبين في مفاوضات مستقبلية. ولكني أقول لك بصراحة: أملي في أن أري الامور تحدث خلال حياتي آخذ في التلاشي . المحادثات تضمنت في مجموعها ثمانية لقاءات. هي بدأت في ايلول (سبتمبر) 2004 وانتهت في ذروة الحرب في لبنان. في الجانب السوري كان نائب الرئيس فاروق الشرع ووزير الخارجية وليد المعلم وضابط برتبة جنرال، علي اطلاع علي مجريات الامور. في ختام المحادثات صاغ الجانبان وثيقة مفصلة تتضمن اقتراحا لاتفاق سلمي بين الدولتين. تم الاتفاق في ذلك الاقتراح فيما اتُفق عليه بأن تبقي السيطرة علي مياه طبرية ونهر الاردن الجبلية بيد اسرائيل، كما اقتُرح بأن تبتعد سورية عن ايران وأن تكف عن تأييدها لحماس وحزب الله. المناطق السورية، شمالي الجولان ستصبح منزوعة من القوات العسكرية، وفي المقابل ستنسحب اسرائيل بصورة كاملة حتي خطوط حزيران (يونيو) 1967 .
بالاضافة الي ألون ليال، مدير عام وزارة الخارجية سابقا، شارك في المحادثات عن الجانب الاسرائيلي الدكتور عوزي أراد، رجل الموساد السابق، ورئيس معهد الدراسات الاستراتيجية في مركز هرتسليا متعدد المجالات. خلال المباحثات رفض السوريون الصيغة التي اقترحها أراد لتبادل الاراضي. اقتراحه نص علي قيام الاردن باعطاء سورية ارضا شمالي المملكة، وفي المقابل يحصل الاردنيون من اسرائيل علي اراضٍ في العربة. أما سورية فستدفع من خلال إبقاء الجولان في يد اسرائيل. كما بُحثت قضية اخري في اطار ذلك وهي اعادة رفات الجاسوس الاسرائيلي ايلي كوهين الي اسرائيل. اللقاء الأخير بين الجانبين جري خلال الحرب في لبنان، واختتم بذلك جولة المباحثات المذكورة.
في هذا اللقاء طرح سليمان عقد لقاء سري بين وزيري الخارجية من الدولتين في اوروبا. كل ذلك من اجل اجراء المفاوضات مع حزب الله لاعادة الأسري ووقف اطلاق النار. الجهات التي كانت مطلعة علي المجريات قالت بأن الرفض الاسرائيلي عُلل بأن الامريكيين لن يرضوا عن ذلك.
الجانبان عملا بمبادرة خاصة منهما وبصورة غير رسمية، ولكن حكومات الجانبين كانت علي علم واضح بذلك. وزارة الخارجية السويسرية كانت شريكا مركزيا في العملية. المسؤولون هناك كانوا يرسلون نتائج كل لقاء الي دمشق واحيانا مع ابراهيم سليمان. فهل وافق القصر الجمهوري في دمشق علي الاقتراح؟ إسألهم ، يتملص ابراهيم سليمان مبتسما.
نظيره ألون ليال يسمح لنفسه بحرية أكبر في الحديث: السويسريون هم الذين عرضوا التقدم علي السوريين ومن خلالهم سمعنا أن السوريين قالوا ما يجلبه ابراهيم سليمان مقبول علينا. السويسريون كانوا يُعبرون لنا عن ذلك بعد كل زيارة لدمشق .
من هذه التجربة المثيرة بقيت اليوم وثيقة واعدة مثيرة للانطباع، ولكن أي انطلاقة سياسية لم تحدث. قبل ثلاثة اشهر إثر فشل المباحثات كُشف أمر وجودها علي يد الصحافي عكيفا الدار في صحيفة هآرتس . من قال بأن الفشل يتيم عرف جيدا سبب ذلك: مع كشف القضية تنصلت دمشق والقدس من أي علاقة بالاتصالات.
هذه لم تكن مفاوضات. هذه كانت مباحثات عمل ترمي الي ايجاد حل للمشاكل بين سورية واسرائيل ، يقول سليمان. قلت لاصدقائي في دمشق عما أفعله، ولكنني لم أكن ممثلا لهم. أنا لست مخولا ولا يُسمح لي بأن أُمثل حكومة سورية .
جذور عميقة في سورية
ابراهيم سليمان (70 عاما) ولد في قرية طرطوس البحرية لعائلة علوية. في عام 1958 سافر الي الولايات المتحدة للدراسة وبقي هناك. بعد عشر سنوات حصل علي الجنسية الامريكية. هو محاضر في الهندسة الكهربائية وقد عمل في عدة جامعات في منطقة واشنطن وبوسطن. في عام 1991 وجد نفسه ضالعا بصورة مستقلة في التحضير لقمة مدريد التي جمعت كل الأطراف المتنازعة في الشرق الاوسط. منذ ذلك الحين يشارك من خلف الكواليس في النشاطات الدبلوماسية المتعلقة بالمثلث السوري الامريكي الاسرائيلي. هو متزوج من شيرلي الامريكية وأب لاثنين. المقابلة معه لا تجري في ظروف مثالية. صحيح انه يحمل جوازا امريكيا وانه قضي اغلبية حياته في الولايات المتحدة، إلا أن جذوره مغروسة عميقا في سورية، وولاءه لها. خمس أو ست مرات في السنة علي الأقل يقوم بزيارة مسقط رأسه حتي يلتقي اصدقاء الطفولة والمعارف. أحدهم هو وزير الخارجية وليد المعلم. لذلك من الصعب انتزاع ذرة انتقاد منه تجاه النظام السوري أو أي أحد من ممثليه. إلا أن الوضع يختلف عندما يُسأل عن اسرائيل.
ما الذي فشل اذا؟ لماذا لم ينجح ذلك؟
الامر لم يفشل. القادة في الجانبين لم يكونوا علي استعداد للسير مع ذلك. (هذه كانت ذرة الانتقاد الوحيدة التي خرجت من فم سليمان تجاه النظام في دمشق خلال المقابلة كلها. ولكنه سارع الي تصويب ذلك).
ما هو سبب ذلك من الجانب السوري؟
المسألة لا تتعلق بالجانب السوري. الاسرائيليون غير مستعدين. السبب الأساسي هو ضعف رئيس الوزراء ايهود اولمرت. اذا قالت حكومة اسرائيل نعم للاقتراح فقد يُعقد السلام هنا خلال ستة اشهر، لان كل المشاكل الأساسية بين الدولتين، وعلي رأسها الحدود والمياه، حُلت في محادثاتنا. ولكن رئيس وزرائكم يعاني من افتقاد الشعبية في اوساط الجمهور، ومن الصعب جدا التوصل الي السلام في ظل هذه الظروف. الجمهور لن يدعم الزعيم الضعيف.
صحيح أنه من المقبول من الناحية الشعبية إلقاء اللائمة علي القيادة الاسرائيلية، ولكن ليس من المؤكد أن الجمهور الاسرائيلي جاهز لتحمل انسحاب آخر بعد الفشل في غزة.
الانسحاب أحادي الجانب ليس حلا، لانه لا يترافق مع الاتفاق. في الحالة السورية أنت تتفاوض مع دولة تقف وراء كلمتها. سورية وقعت علي اتفاق وقف اطلاق النار مع اسرائيل في عام 1974، وهو لم يُخترق أبدا. لم تُطلق منذ ذلك الحين رصاصة سورية واحدة.
لم تكن هناك حاجة لذلك، فحزب الله قام بالمهمة عنكم.
هذه مسألة نظرية لا يمكن الرد عليها. في حزب الله يقولون انهم يكافحون من اجل تحرير الاراضي اللبنانية وليس السورية.
الأسد يريد السلام
ابراهيم سليمان يعتقد أن الرؤية الاسرائيلية التي تُشكك في النوايا السلمية لبشار الأسد، خاطئة. أنا اؤمن جدا بأن الرئيس السوري يريد صنع السلام مع اسرائيل. هو يريد، وهو مستعد وجاهز لذلك .
اذا كيف توضح تصريحاته الأخيرة إذ قال انه اذا لم يكن هناك سلام فهناك خيار الحرب؟
هو قال ذلك بالفعل. ولكن يتوجب رؤية الصورة كلها. في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة ليه ريبوبليكا الايطالية قال الأسد: أنا أريد أن يذكرني الناس كرجل سلام. نحن السوريين والاسرائيليين نستطيع العيش بسلام وانسجام الي جانب بعضنا البعض. قائد سورية يقول انه يريد السلام، وليس لدي سبب للارتياب في مصداقيته. فما الذي يمكن توقعه أكثر من ذلك؟.
هل تتوقع مجابهة عسكرية بين سورية واسرائيل في المستقبل المنظور؟
سورية لا تريد ذلك. في الحرب لا ينتصر أحد. الشعب السوري لا يريد إهدار ماله علي النفقات الحربية. قبل اسبوعين خلع اولمرت قفازه وألقاه للدول العربية مقترحا عليها استقباله في عواصمها والشروع في مفاوضات سلمية. تصريحاته وُجهت بالأساس للسعودية وسورية. مبادرته هذه قوبلت بجدار مُحكم الاغلاق. ابراهيم سليمان يعتقد أن اولمرت لا يملك فرصة لزيارة العواصم العربية قريبا. لماذا يدعونه اذا كان يتصرف مع العرب بمثل هذه الطريقة السلبية؟ ، هو يتساءل، أنظر ما حدث في لبنان. كان من الممكن ان يكون الجنديان المختطفان مع عائلتيهما الآن، ولكن اسرائيل خرجت الي الحرب بدلا من ذلك وفقدت 160 اسرائيليا وقتلت ألف لبناني وزرعت الدمار بالملايين، وكل ذلك في معركة خاسرة .
كيف يتوجب التعامل مع حزب الله؟ هم يصرحون أنهم لا يريدون التفاوض مع اسرائيل.
علي القيادة الاسرائيلية أن تكون حكيمة وان تجد الطرق الأكثر نجاعة للتعامل مع أعدائها بدلا من الحرب. أنظر الي البريطانيين، بعد اسبوع حصلوا علي ملاحيهم الذين أُسروا في ايران من دون اطلاق رصاصة واحدة.
سليمان يؤكد أن حزب الله هو طرف محبوب في نظر الجمهور السوري. هم يعتبرونه حركة محبوبة، الوحيدون الذين صمدوا في وجه اسرائيل وتفوقوا عليها. اسرائيل هُزمت في نظر العرب .
وماذا في نظرك؟
أنا اعتقد أن اسرائيل قد فشلت في تحقيق ما أرادته. وإثر ذلك انخفضت مكانة جيشها الي الصفر. الاحترام الذي كانوا يُكنونه لها في الماضي اختفي.
أمس ظهرا، مع خروج ابراهيم سليمان من مؤسسة يد واسم ، أحاط به صحافيون كثيرون وسألوه عن شعوره. ليس في كل يوم يأتي سوري مقرب من قيادة النظام هناك لزيارة متحف الكارثة النازية في القدس. سليمان وجد صعوبة في الحديث إذ كان مختنقا والدموع في عينيه. بعد عدة ثوانٍ طلب ايقاف المؤتمر الصحافي العفوي حيث تنحي جانبا ومن ثم عاد بعد مدة قصيرة. لم أتخيل أن هذا ما سأراه ، قال بعد أن استعاد أنفاسه. كل شيء هناك عاطفي جدا ويمس القلوب والمشاعر .