المعضلة الكامنة في الحرب الدائرة رحاها في العراق اليوم هي ذات المشكلة التي عصفت بالحرب وبأمريكا قبل نحو جيل. لم تفهم واشنطن الشعب العراقي على الاطلاق، تماماً كما أن جيل الستينات لم يفهم الشعب الفيتنامي.

وغالباً ما يرتكب صناع السياسة الأمريكيين الغلطة التي أسميها “مغالطة أو خداع الصورة في المرآة”، إذ يفترض هؤلاء أن الشعب الآخر الذي نتعامل معه ما هو إلا صورة عن أنفسنا، وأن ردة فعله ستتماثل مع ردود أفعالنا في الظروف ذاتها، وهذا هو الخطأ بعينه، إذ إن من أندر النوادر تحقق هذا فلكل شعب خصائصه النفسية وسماته الشخصية المتفردة.

وكنت قد استخدمت هذا المثل من قبل، إلا أنه مترع بالايحاءات والدلالات، لذا أستميحكم عذراً في أن أستحضره هنا.

فنحن جميعاً نعرف كيف تكون ردة فعل الأمريكيين ازاء موت مفاجئ لعزيز عليهم أو حبيب يقضي في حادث عرضي، فما أن يباغتهم الخبر حتى يبادروا إلى مهاتفة محام، لأنهم يبتغون المقاضاة ورفع قضية امام المحاكم لتغريم الجانب، حتى وإن كانت جنايته تمت عن طريق الخطأ، وغالباً ما يحددون مبلغاً بالدولار يطالبون به المتسبب تعويضاً عما أصابهم ونزل بساحتهم جراء فقدهم لهذا الغالي، إلا أنه حدث مع بداية هذه الحرب عندما توجه ضابط أمريكي إلى منزل أسرة عراقية كان ابنها قتل عن طريق الخطأ ودق بابهم ووقف عند عتبة الدار وسأل والد المقتول ظلماً عن التعويض الذي يريد، فأجاب العراقي “رأس عشرة من الأمريكيين”.

ثم جاء في خضم نهر هادر من الأحداث نبأ ذاك الصبي الذي فقد في الأيام الأولى من الحرب أسرته وذراعيه وساقيه. وبذلت جهود شجاعة لإنقاذ حياته، وجرى بنهاية الأمر إرساله بالطائرة إلى بريطانيا وأجريت له عمليات وركبت له أطراف صناعية. وسلط الإعلام الغربي والصحافة أضواء مبهرة على القصة وجعل منها ملحمة كبرى بطولية، ربما لأنهم ظنوا أن الحكاية ستقع من نفوس الناس موقعاً حسناً في الغرب. إلا أن الصبي وبعدما تماثل للشفاء في نهاية المطاف واستعاد لياقته الصناعية إلى الدرجة التي تسمح له بعقد مؤتمر صحافي، أتدرون ما قال حينها؟ هل توجه للصحافيين بلسان العرفان والامتنان ليقول شكراً لكم؟ لا، لم يقل هذا بل أفصح عن أمنيته وراح يتضرع إلى الله أن يحل غضب الجبار على من أباد عائلته وصنع به هذا فيحرقهم أحياء. لقد كانت المرارة التي تكتنز في صدره عارمة، وحزنه وغضبه أكبر من أي محاولة للاحتواء أو التعزية. وعلى الفور أسقطته الصحافة من حساباتها وفقد الإعلام كل اهتمام به ونسيه الغرب بأسره، فأي جاحد للمعروف هذا الفتى؟

المال أثمن ما في ثقافتنا من قيم، لذا فإننا ننزع إلى أن ننظر شزراً إلى أي حالة تحول دون جني المال ونقف منها موقفاً سلبياً، فما نفع المثل إن هي لم تدر مالاً!

وفي المقابل فإن الثقافة العربية لا ترى أي غضاضة على الاطلاق في الاستفادة المادية وجني المال، إلا أن القيم الأسمى في هذه الثقافة تتمثل في الشرف والكرامة والعزة والولاء للأسرة وللعشيرة. وثقافتنا تفتقر إلى قيم الشرف الشخصي والولاء للأسرة والعشيرة، وهي مثل عليا عندهم، في حين تكاد تغيب غياباً تاماً في وجداننا الجمعي.

لذا نسأل: على أي أساس يجوز لجهابذة الخبراء الذين يسدون لواشنطن النصح أن يفترضوا أن هذا الشعب يمكن أن يتناسى الإساءة؟

ينبغي أن تسلم إدارة بوش بألا تمضي في المكابرة وتستمر في هذا الغي المهلك، ويجب أن تقر بأنها ارتكبت خطأ فظيعاً وأن تعيد الجنود الأمريكيين إلى ديارهم ووطنهم عاجلاً غير آجل. لقد أفسدنا الأمر واتسع الفتق على الراتق فأنى لنا أن نصلح الأمور الآن؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)