تشكل الذكرى الرابعة للحرب على العراق مناسبة طبيعية لإجراء عملية تقويم لهذا الحدث الذي أريد له ومنه إجراء تغيير جذري في المنطقة انطلاقاً من العراق. والسؤال الذي يختزل الكثير من التساؤلات والاجابات معاً: ما الذي كان مخططاً لهذه الحرب؟ وما الذي تحقق؟

كانت الأسباب «المعلنة» لغزو العراق لائحة اتهام من بندين رئيسيين: امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، وتواطؤ نظامه مع تنظيم «القاعدة» في العمليات الإرهابية.

البند الأول سقط من زمان ولا يزال البحث جارياً حتى الآن ـ على أسلحة دمار شامل في طول العراق وعرضه.

أما التهمة الثانية فسقطت هي بدورها، إذ قبل بضعة أيام أعلنت اللجنة الأميركية الخاصة المكلفة دراسة مجموعة كبيرة من الوثائق أنها لم تعثر على ما يُفيد بقيام «علاقة عمل» بين «النظام» و «التنظيم».

وأسقط في يد الرئيس جورج دبليو بوش وهو يبحث عن أسباب أخرى لتبرير الحرب فلم يعثر مع نائبه ديك تشيني إلا على تكرار مقولة «أن العالم من دون صدام حسين هو أكثر أمناً»!

وتحت شعار تحرير العراق من الديكتاتورية ـ وهذا ما لا يدافع عنه أحد ـ إلا فريق من المغرضين والنفعيين، لكن ما هي الأثمان الباهظة التي دفعت مقابل تغيير النظام العراقي؟

أسوأ ما في الأمر أن خصوم النظام السابق بدأوا بـ «الترحم» عليه بعد كل ما قام به الاحتلال الأميركي من ممارسات قطعت العراق أوصالاً وفجرت هذه الحرب بل الحروب المذهبية والطائفية والعرقية.

كاظم الجبوري الرجل الذي ساعد على الإطاحة بتمثال صدام حسين قبل أربعة أعوام في ساحة الفردوس، اعترف بأنه نادم على فعلته ويضيف: «بعد رحيل حرامي واحد فوجئنا بأكثر من أربعين حرامي».

وفي سياق الطروحات المعروضة لإخراج العراق من دوامة الجحيم اليومية قدّم علي علاّوي أحد مستشاري رئيس الوزراء نوري المالكي ووزير سابق للمال والدفاع والتجارة من واشنطن، الطرح التالي:

«ان الإطار الحالي للدولة العراقية غير مستقر كلياً وأن آلة الحكم منهكة وفاسدة كي تستطيع إدارة البلاد. لذا يبدو أن حلاً مناطقياً هو الرد الوحيد المحتمل، على أن تعمل السلطات الفيدرالية كََحَكَم بين المناطق. والفيدرالية في العراق يجب أن تضمن من خلال معاهدة دولية توقع عليها القوى الاقليمية وعندها تستبدل القوات الأميركية بقوة دولية تكون مهمتها فرض استقرار النظام الفيدرالي الجديد». وانتقد علاوي الطريقة التي أدارت بها الولايات المتحدة العراق منذ العام 2003 متهماً إدارة الرئيس جورج بوش بـ «العجرفة والجهل الفظيع».

إذاً... إعادة الوحدة واللحمة إلى العراق بعد كل الذي حدث يبدو من رابع المستحيلات، لكن هل يقتصر أي تغيير جغرافي أو ديموغرافي على العراق فحسب ؟ أم أن المنطقة بكاملها معرضة لانتقال عدوى التقسيم والفدرلة إليها؟

ومنذ سقوط بغداد في التاسع من شهر نيسان (ابريل) العام 2003 بدأت الطروحات الأميركية تنهال ومن أبرزها أن دمقرطة منطقة الشرق الأوسط قد بدأت مع «تحرير العراق» فإذا بالجميع يكتشف أن عملية الدمقرطة التي وعد بها وقد تحولت إلى محرقة للمنطقة بكاملها وهذه واحدة من نتائج الخطيئة الأميركية القاتلة.

وبدا المشهد العراقي يتظهر شيئاً فشيئاً حتى أكمل النصاب المأزق القائم. فالانسحاب الأميركي السريع ينطوي على نتائج كارثية عراقياً وفي ما يتخطى العراق من دول الجوار، وكذلك بقاءَ الاحتلال له الكثير من التداعيات التي لا تقل كارثية عن الانسحاب. وفي الأسبوع الماضي ـ فقط ـ اكتشف الرئيس جورج دبليو بوش «أن حرب العراق لم تعد شعبية»... وقالها وهو يودع فريقاً من القوات الاضافية التي قرر إرسالها إلى العراق الأمر الذي أدى إلى مواجهة سياسية قاسية بينه وبين الكونغرس «الديموقراطي». وآخر التفجيرات وقعت قبل يومين داخل مبنى مجلس النواب العراقي في أبرز عملية اختراق للمنطقة الخضراء.

ويمكن وصف السجال القائم بين البيت الأبيض والكونغرس بأنه «عملية تمرد» من جانب الغالبية الديموقراطية ضد توجهات الرئيس في العراق من حيث ربط الموافقة على تمويل إرسال المزيد من القوات بالالتزام بجدول زمني للانسحاب. وقد يضطر في نهاية الأمر إلى اللجؤ لاستخدام «الفيتو»، وهو الحق الممنوح للرئاسة. ولم يقتصر «التمرد الديموقراطي» على ممانعة سياسات ومواقف البيت الأبيض في الداخل العراقي، بل أن الغضب «البوشي» تحول إلى رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي عندما قامت بزيارة دمشق ولقاء الرئيس بشار الأسد حيث وجد بوش في هذ الخطوة ضربة لعزل النظام السوري.

وحيال موجة الحزب الجمهوري التي طاولتها كان ردها بأنها لا تفعل أكثر مما ورد في دراسة بيكر ـ هاملتون والتي دعا فيها إلى إقامة حوار مع سورية وإيران تمهيداً للخروج من المأزق العراقي.

على أن الحدث المنتظر هو الاجتماع الخاص بالعراق والذي تقرر انعقاده (حتى الآن) في الثالث من أيار (مايو) المقبل في شرم الشيخ. ومن المفارقات اللافتة أن إيران هي التي تضع الآن الشروط للقاء المحتمل بين الآنسة كوندوليزا رايس ووزير الخارجية الإيرانية منوشهر متكي: هل سيكون موضوع البحث محصوراً بالعراق فحسب؟ أم قد يتناول الشؤون الأخرى العالقة بين الولايات المتحدة وإيران، وما أكثرها؟ هكذا يتم الاستثمار الإيراني للمأزق الأميركي في العراق.

وتزامنت هذه الأحداث مع تطور لافت تمثل باحتجاز إيران للبحارة البريطانيين الخمسة عشر في منطقة بحرية متنازع عليها. ففيما تؤكد طهران أنها فعلت ذلك فيما كان البحارة في المياه الاقليمية الإيرانية، تؤكد السلطات المختصة في لندن أن عملية الاحتجاز تمت في المياه الاقليمية العراقية.

ومنذ وقوع الحادث نشط توني بلير في إجراء الاتصالات الديبلوماسية مع العديد من «الدول الصديقة لتأمين عملية الافراج عن البحارة وبين هذه الدول كانت سورية التي تميزت بعلاقة خاصة مع بعض مستشاري رئيس الحكومة البريطانية الذي يستعد للرحيل (الشهر المقبل أو الذي يليه). في هذا الوقت كان الرئيس بوش على الخط الآخر محرضاً حليفه الوثيق في حرب العراق على استخدام اسلوب العصا الغليظة مع إيران، لكن بلير لم ينس حتى الآن عمليات التوريط التي أوقعه بها جورج بوش في الحرب على العراق، لذا شددّ على استخدام كل الوسائل الديبلوماسية قبل التهديد باللجؤ إلى «الخيار العسكري».

وهنا اتقنت إيران من جديد ممارسة اللعبة، فبعدما عرضت البحارة على شاشات التلفزة يعترفون بدخول المياه الإيرانية عن طريق الخطأ... وفي اليوم الثالث عشر للأزمة خرج «المخرج» الرئيس محمود أحمدي نجاد بحل الافراج عن البحارة مع تقديم ثياب تعود للحرس الثوري الإيراني إلى البحارة المحررين بالاضافة إلى هدايا أخرى كالفستق الإيراني كي لا ينسى البحارة حادث احتجازهم في طهران.

وفيما حبس العالم انفاسه من احتمال نجاح أفكار بوش التحريضية واللجؤ إلى خطوة عسكرية تصعيدية انفاذاً لتهديدات واشنطن في إطار تعاطيها مع أزمة الملف النووي الإيراني، لكن «المرونة الإيرانية»! فوتت هذه الفرصة وأرجأت ـ ربما ـ أي مواجهة مفترضة. حتى إشعار آخر. في حين تؤكد معلومات أخرى أن ما أقدمت عليه إيران من احتجاز البحارة البريطانيين انما كانت عملية اختبار وجس نبض للمقدار الذي يمكن أن يبلغه الغرب البريطاني ـ الأميركي من تصعيد في أسلوب التعاطي مع هذه الأزمة.

ومن وحي المواجهة البريطانية ـ الأميركية مع إيران ومدى انعكاسها على المنطقة يجب ملاحظة الأمور التالية:

أرادت إيران عبر الحادث الأخير أن توجه رسالة بأنها لا تزال تحتفظ بالمبادرة وأن القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي من حيث فرض العقوبات عليها لن يكون لها ذلك التأثير الكبير، فيما يمضي الرئيس أحمدي نجاد في «التصعيد النووي» غير آبه بالنصائح الروسية من حيث ضرورة اعتماد اسلوب الاعتدال بوجه الضغوط الأميركية.

يقول هنري كيسنجر (إياه): «سورية وإيران دولتان ضعيفتان تجدان نفسيهما في موقف قوي مؤقت».

لكن الممارسات الفعلية تؤكد غير ذلك. فإما أن الثنائي الإيراني ـ السوري يملك العديد من الأوراق الاقليمية لاستخدامها خلال الفترة الحرجة القائمة. إما أن حلف دمشق ـ طهران يبالغ في قيمة وفي فعالية ما تمتلكه فعلاً سورية وإيران. وفي مواجهات من النوع القائم حالياً في المنطقة كل شيئ يبدو متاحاً ومن ذلك اللجؤ إلى أساليب الخداع والمناورة لإيهام الخصم.

وعودة على بدء: ما بين النتائج الكارثية التي انتهت إليها الحرب الأميركية ـ البريطانية على العراق (حتى الآن)، وانتزاع إيران بالتحالف مع سورية مبادرة الاحتفاظ «بخطوط الممانعة» تقف المنطقة بكاملها عند منعطف بالغ الخطورة. من إيران إلى سورية مروراً في فلسطين وصولاً إلى لبنان الذي يعايش حالة من التجاذبات الحادة والتي لن تقتصر على تبادل الرسائل بين ما يعتبره المجتمع الدولي «شرعياً ودستورياً، «وما تعتبره المعارضة» غير شرعي وغير دستوري وغير ميثاقي».

وإذا كان العراق «يحتفل» بمرور أربع سنوات على غزوه فإن لبنان يعايش هذه الأيام الذكرى الثانية والثلاثين لاندلاع الحروب الأهلية في الثالث عشر من نيسان (ابريل) العام 1975. وهكذا يكون للعراق (نيسانه) وللبنان (نيسانه)!

... والكل في الهم شرق.

ونظراً لسقوط كل الذرائع التي دخلت فيها أميركا جورج بوش الحرب على العراق، يخشى أن يأتي يوم لا يجد فيه الرئيس الأميركي من يلقي عليه تبعة اللوم على ما يجري إلا توجيه التهمة إلى الشعب العراقي نفسه على فشله في الحرب.

ولعل أفضل تطور شهده العراق أخيراً تمثل بفوز العراقية شذى حسون بنجومية «ستار أكاديمي ـ 4» في لبنان، فهي الرمز الوحيد الذي التقى حوله العراقيون بكافة أطيافهم وطوائفهم واعراقهم حيث شارك في التصويت لها ما يزيد على ثمانية ملايين عراقي، وهو أمر لم يحدث منذ نشوب الحرب.

ورغم النشوة التي اجتاحت العراقيين وهذا من حقهم الطبيعي فإن حراجة الوضع في العراق تحتاج إلى أكثر من هذا الانجاز للخروج من المحنة. كما أن الوضع في لبنان يحتاج إلى أكثر من معجزة لانتزاعه من السقوط المخيف في الهاوية السحيقة من جديد.

الأزمات السياسية قد تتكرر لكن هل تتكرر مشاريع الحروب الأهلية بهذه السهولة رغم النفي المتكرر لوقوعها ؟ ومرة جديدة: النزاعات الأهلية لا تحدث بقرار .. ولا تنتهي بخطاب أو بقرار.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)