كما منحت الطبيعة بودابست الجميلة روعتها أعطاها حرص المجريين، عبر كافة الحقب والعصور، على تميزها وتعلقهم بها فرادتها ونكهتها الخاصة... لكن الجغرافيا والتاريخ، أو دكتاتورية الموقع تحديداً، حرمت هذا البلد الصغير، وعبر كافة تلك العصور والحقب تقريباً، من امتياز رسم سياسته الخارجية الخاصة به وحده، أو تلك المميزة عن ما ترسمه الأفلاك الكونية الكبرى، أو القارية تحديداً، من مسارات عامة شبه إجبارية لمن شاءت أقداره الدوران حولها من مستضعفي الدول، أو تلك الشعوب الصغيرة المحشورة في الفراغات الجغرافية والسياسية المتروكة لها، أو المساحات الممكنة التي انتزعتها أو تمكنت من الحفاظ عليها عبر التاريخ الأوروبي الدامي... الفراغات مجازاً، تلك الواقعة بين مواقع حيتان القارة، أو أممها الكبرى المتنافسة المتطاحنة... هذه المتنافسة التي كان لها وحدها عبر تاريخ العالم امتياز إشعال فتيل الحربين الكونيتين الاثنتين اللتين شهدتهما الكرة الأرضية... في أوروبا ظل التدافع الدموي دائراً بين كبار انتموا عادة لكتل عرقية كبرى ثلاث، هي اللاتين والجرمان والسلاف أما فتات الآخرين، ومعهم فتات هذه الكتل، فظل يلحق بالغالب لينجو بجلده، وربما ليلحقه نصيب مما يتم نهشه من المغلوب... لعلها بعضاَ من ضرورات التحايل من أجل البقاء، وبالتالي ضريبة استحقاقات الاستتباع لمن يقبل به!

...في البداية جاء الرعاة المجريون المحاربون فوضعوا أيديهم على سهل المجر العظيم في قلب أوروبا، وأنشأوا بالقوة، وكانوا حينها المحاربين الأشداء، مملكتهم بين جبال الكربات شرقاً والألب غرباً، في القرن التاسع الميلادي، لكنهم لم يلبثوا، وحرصاً على البقاء بين الكتل الثلاث القوية المشار إليها، أن اضطروا إلى الابتعاد عن شرّ التمايز اتقاءً لخطورة الاختلاف، الذي حتام يجلب عداء الآخرين، إلى التحول من الوثنية السائدة بين قبائلهم السبع إلى المسيحية الكاثوليكية بقرار سياسي شهير من الملك اشتفان، الذي أعمل فيهم سيفه حتى أنجز بالحديد والنار هذا التحول المنشود، فاستحق بذلك أن كرسته روما فيما بعد قديساً... وفي عصور لاحقة اندمجت الأسرتان المالكتان في فينا وبودابست في ما يعرف بأسرة الهابسبورغ التي حكمت إمبراطورية النمسا والمجر، أو بالأحرى، تم إلحاق بودابست بفينا، ولعله من هنا مصدر بعض التشابه الراهن الملاحظ بين المدينتين، وسر العلاقة الخاصة والمميزة بين الدولتين الجارتين...

وظل هذا الحال هو الحال حتى الحرب العالمية الأولى وما طرأ بعدها من تغييرات معروفة في الخارطة السياسية الأوروبية أدت في ما أدت إليه إلى ضياع أقاليم مجرية أربعة ابتلعها الجيران مثل فيدشاغ أو ففيودينا في صربيا راهناً، وأرديي أو ترانسيلفانيا في رومانيا، حيث مؤل الثقافة المجرية تقليدياً، وبُجوني التي أصبحت تعرف ببراتسلافا في سلوفاكيا، وهي المدينة التي كانت قد شهدت ما يشبه أول برلمان مجري في تاريخ الأمة المجرية، وكارباتاليا (أسفل الكربات) في أكرانيا... واستمر الحال هو الحال فيما بعد، فمثلاً في نهايات الحرب العالمية الثانية سقطت برلين في يد الحلفاء في حين كانت خليفتها بودابست المخلصة في ظل حكم سالاشي لا تزال تقاوم الجيش الأحمر... بعدها، أي في نهاية الحرب، التحقت بودابست كسواها من جاراتها الشرقيات بموسكو، لتبدأ الحقبة الاشتراكية المجرية، ولتصبح من ثم سياساتها الخارجية تفصيلاً من تفاصيل السياسة السوفييتية، أو بما لا يخرج عن استراتيجيات حلف وارسو... بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، تبخرت على الفور الاشتراكية المجرية، وبسرعة فاقت بكثير سرعة فرضها إثر دخول الجيش الأحمر بودابست، معلناً بدء التحول الذي ساد إبان الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى حدوث هذا الانهيار... كانت على أي حال الاشتراكية المجرية وفق التعبير الدارج اشتراكية "سكر خفيف"...

وعليه، وعلى أثر انهيار حلف وارسو، كان لا بد وأن تجنح السياسة الخارجية المجرية غرباً باحثة بالضرورة عن مركز تدور في فلكه، كان في انتظارها بالطبع حلف الناتو والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي... ومن البعيد وعبر الأطلسي الإيحاءات الأمريكية، أو المايسترو الذي لا يبتعد عازفو أوروبا كثيراً عما ترسمه كونياً الحركة العامة لعصائته المقتدرة!

في بداية التحول تصادف وأن كنت في بودابست ليقدر لي في صبف 1989 أن أشهد بدايات فصوله التي لا تخلو من مفارقات. كان ذلك إبان الحقبة الغورباتشوفية التي اختتمت وقائعها الدراماتيكية الحقبة السوفييتية... في بودابست يوم ذاك أصرت المعارضة على إعادة تشييع ناجي إيمره رئيس الوزراء والرمز التاريخي لما عرف بانتفاضة المجر عام 1956... وافقت الدولة أو الحكومة الاشتراكية حين ذاك وقبلت طائعة لا مرغمة باشتراطات المعارضة... المعارضة التي برزت إلى الوجود فجأة وبعضها جاء من الخارج...

وكان من بين هذه الاشتراطات أن تعطى المعارضة يوماً كاملاً خاصاً بها للاحتفال بهذه المناسبة، حيث يتم إخراج ناج إيمره من قبره الذي دفن فيه بعد إعدامه قبل عقود إثر القضاء على تلك الانتفاضة، والسير بجنازته مشيعاً إلى مثواه الأخير الثاني الذي اختارته له هذه المعارضة. وسارت الجنازة المظاهرة بدءاً من "ساحة الأبطال" التاريخية المعروفة إلى حيث المقبرة المختارة عبر الشوارع الفسيحة المديدة الخالية من الشرطة وكل مظاهر السلطة والحركة أو ما خلا المشيعين. وكان من بين الاشتراطات الاتفاق على أن يغطي الإعلام الرسمي هذا الحدث طيل يومه ذاك، وهذا ما كان. والأطرف أن الحكومة والحزب الحاكم مُنعوا من المشاركة إلا بشكل شخصي. وكانت عبر التلفاز والإذاعة الرسميين تتعالى طيلة اليوم شعارات المشيعين ضد "العهد البائد" الذي لا يزال في الحكم... بعد فترة زمنية لم تطل اجتمع الحزب الحاكم، حزب العمال المجري، أي الحزب الشيوعي، وحل نفسه وسلم السلطة للمعارضة، وذهب أعضائه بهدوء كل إلى بيته، ليستبدل النظام بنظام آخر دون أن تراق قطرة دم أو يعتقل أحد، أو يسأل أحدٌ أحداً عما جرى في الماضي أو ما يجري في الحاضر، باستثناء بعض مظاهر نبش الماضي إعلامياً!

فيما بعد، وربما هذه واحدة من المفارقات في أوروبا الشرقية، اجتمع الحزب الذي حل نفسه منهياً ما دُعي بحقبة "العهد البائد" فلم شمله وغير اسمه من حزب العمال المجري إلى الحزب الاشتراكي المجري، وخاض الانتخابات وكسبها وعاد إلى السلطة... وكان من أولى مهامه التي حققها، وكان من أشد المتحمسين لها، هو الانضمام إلى حلف الناتو، والحرص على مواصلة الجهود السياسية الساعية للانضمام للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي تحقق كما هو معروف فبما بعد... قد يتبدد استغرابنا هذا إذا ما علمنا أن الأمين العام لهذا الحزب، مثلاً، وهو من أصبح رئيس الوزراء بعد العودة إلى السلطة، هو آخر وزير للخارجية إبان الحقبة الاشتراكية، إنه غيولا هورن، أول من سمح للألمان الشرقيين، أو رعايا الدولة الحليفة في حلف وارسو، الذي كان لا يزال قائماً في تلك الفترة، بالفرار عبر حدود بلاده إلى النمسا وعبرها إلى ما كانت ألمانية الغربية حينها، ليسهم هورن بذلك مساهمة أساسية في وضع حجر الأساس للحالة المؤدية لانهيار ما عرف بجدار برلين. ولم تقف مآثره عند هذا الحد، بل هو بذاته صاحب التصريح الشهير الذي زعم فيه بأن "الإرهابيين الفلسطينيين" يقاتلون جنباً إلى جنب مع "السيكوريتاتا" أو ما كان يطلق على أمن النظام الروماني ايام شاوشيسكو، إبان حوادث إسقاطه، تلك التي تلت هبة إرديي أو ترانسيلفانيا، أي الهبة التي بدأت شرارتها ليس بمحض الصدفة في مناطق الأقلية المجرية الكبيرة في رومانيا. والمعروف أن المجر كان لها دور، إعلامي على الأقل، في دعم تلك الأحداث التي أطاحت بشاوشيسكو... مفارقة أخرى، فيما بعد، أي بعد أعوام من التحول، عندما وافت المنية الأمين العام التاريخي لحزب العمال المجري يانوش كادار، اي الرجل غير العادي الذي أوكل إليه تضميد جراح المجر بعد أحداث 1956، وكان يتمتع بشعبية خاصة يزيد منها بساطته العائدة إلى أصوله العمالية وإطلالته البشوشة وهيئته الوقورة، اصطف المجريون على اختلاف فئاتهم طوابيراً لعدة أيام لكي يتسنى لهم المرور مودعين من أمام جثمانه المسجى في البرلمان... لعلها واحدة من خصوصيات التحول الذي شهدته بودابست.

... والآن وقد أصبحت المجر عضواً في الاتحاد الأوروبي، وقبله عضواً في الناتو، ترى أي سياسة خارجية تنتهج؟!
من تحصيل الحاصل حرصها على الالتزام بالخط العام للاتحاد الأوروبي، وهذا هو ما يتم على اية حال، لكن، وبدلاً من انتهاج سياسة خاصة تخدم المصالح المجرية أولاً ولا تخرج عن الإطار العام الأوروبي ثانياً، كما يفترض، وهذا هو ما ينتهجه أغلب الأوروبيين في غرب القارة عموماً، يجنح الأوروبيون الشرقيون، وفي مقدمتهم بولونيا، والمجر، وتشيخيا، ومعهم الآخرين، نحو الولايات المتحدة الأمر الذي يجعل من هؤلاء، وفقما يصفهم البعض هنا، يشكلون ما هو أشبه بشوكة في حلق سياسات الاتحاد الأوروبي الساعية أحياناً للتمايز بقدر ما عن السياسة الأمريكية، دون الابتعاد كثيراً عنها، أو أنهم، أي الشرقيين، قد غدوا في الواقع عبئاً معيقاً لبعض طموحات ما يدعوهم الأمريكان بأوروبا القديمة، هؤلاء اللذين لا تخلو مخيلاتهم من طموح وأحلام المراكز الكبرى، وإن هم لا يسعون بحال من الأحوال إلى شق عصا الطاعة على القطب الكوني الأوحد.

قد لا يكون هنا هو المجال للحديث عن زحف الناتو شرقاً باتجاه تطويق حظيرة الدب الروسي المستعيد عافيته ببطء بعد بيات شتوي قاسٍ أعقب نهاية الحرب الباردة، أو الكلام عن الصواريخ المزمعة نصبها في بولونيا أو تشيخيا، والسجون الكونية الأمركية السرية الطائرة والمقيمة هنا أو هناك في المنطقة والتي يدور الحديث في الجزء الغربي من القارة عنها، ولا القواعد العسكرية الأمريكية التي ستنشأ في بلغاريا أو سواها، وقبل ذلك، الدور الذي لعبته دول أوروبا الشرقية كمواقع عبور أو مواقف منحازة إبان الحرب على صربيا أو ما تبقى من يوغسلافيا، وكل المظاهر التي تأتي في سياق مسايرة السياسة الأمريكية الكونية بعد تفرد الولايات المتحدة بقرار العالم، أو عقب أحداث 11 سبتمبر... لكننا وقد اتخذنا المجر نموذجاً، فإنه، وفي ذات السياق، نجد أنفسنا ندلف إلى موضوع يهمنا وهو العلاقات المجرية العربية... الموقف المجري من قضايانا، وتحديداً الموقف الشعبي المختلف عن الرسمي من الحرب الدائرة على العراق... والتوقف أمام ما وعدنا به في المقال السابق ونحن نعالج هذا الموضوع، العرب في المجر والخارطة السياسية في بودابست والتي لم تعد كما كنا قد عهدناها سابقاً... وهذا هو موضوع مقالنا القادم.