لم تعد العملية الانتخابية معياراً كافياً لتقويم الديموقراطية في عهد ما بعد الحداثة السياسية، فحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني أضحتا اليوم المقوم الحقيقي للديموقراطية، ومع ذلك يظل الاقتراع العام في نهاية المطاف الأساس الذي تقوم عليه الديموقراطية، فبدون العملية الانتخابية والتمثيل السياسي الصحيح لا يمكن الحديث عن مجتمع ومؤسسات ديموقراطية، ذلك أن الاقتراع العام يفترض مسبقاً تحقق أمور ثلاثة:

ـــ سيادة القانون وما يعنيه من اعتبار الأفراد المواطنين على مسافة واحدة من القانون سواء كانوا داخل السلطة أو خارجها.

ـــ المواطنة باعتبارها أساس الانتماء للأمة أو الدولة بغض النظر عن الانتماءات الطائفية الضيقة، أو المواقف السياسية المعارضة لمنطق السلطة ما دامت المعارضة تعبّر عن نفسها تحت سقف القانون.

ـــ فصل السلطات وما يعنيه من استبعاد هيمنة الدولة هيمنة كاملة على مؤسسات المجتمع، إذ إن الغاية من الفصل هو أن تستقل كل مؤسسة من مؤسسات الدولة الثلاث (التشـــــــــريعية، التنفيذية، القضائية) بعملها عن الأخرى، ولا يكـــــــون لأي منهما هيمنة على الأخرى، إنه نوع من تقسيم العمل السياسي داخل الدولة، فالسلطة التشريعية تصوغ السياسات العامة وتشرع القوانين، والسلطة التنفيذية تطبق هذه التشــــــــــريعات عملياً، فيما تقوم السلطة القضائية بفض النزاعات عبر تطبيق العدالة وفق الدستور المرعي.

إن فصل السلطات داخل الوحدة السياسية يمكن اعتباره المعيار الذي يحدد مدى اقتراب الدولة أو ابتعادها عن العملية الديموقراطية، وبموجب الفصل هذا، على السلطة التنفيذية أن تكون خاضعة للسلطة التشريعية لا من حيث الأداء العملي، بل من حيث المرجعية التشريعية ـــ القانونية، الأمر الذي يعطي للسلطة التشريعية ليس فقط مراقبة الحكومة بل تصحيح مكامن الخطأ والاعوجاج فيها عبر سن القوانين اللازمة لذلك.
في سوريا لا تخضع الحكومة للسلطة التشريعية (مجلس الشعب)، الأمر الذي يختزل عمل المجلس إلى مجرد مراقب خارجي غير قادر على التدخل إيجاباً بإصدار القرارات المطلوبة، ما دام أن هذه القرارات لا تحمل أي إلزام قانوني تجاه الحكومة، وهنا يجد النائب نفسه غير مضطر للدخول في متاهات عمل الحكومة لا سيما تلك المتعلقة بالقضايا المهمة.

وما دامت الحكومة ليست مسؤولة أمام مجلس الشعب، فمن الطبيعي والمنطقي أن لا يمتلك حق التصويت أو حجب الثقة عنها، فوظــــــــــيفته تختزل إلى أخذ العلم بالشيء كما أكدت المادة 118 من الدستور، والتي تلزم الحكومة عند تأليفها بــــــــــتقديم بيان عن سياستها وبرامجها إلى المجلس.

لا تتحدد العملية الديموقراطية بمبدإها فقط، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، بشكلها، فالشكل الديموقراطي كما بينت التجارب الديموقراطية الحديثة، يحدد طبيعة المؤسسات الديموقراطية، ويوضح الأساس السوسيوثقافي للعملية الديموقراطية المطلوبة.

إن نظرة سريعة إلى واقع مجلس الشعب في سوريا من حيث التكوين والآليات، توضح الوظيفة المراد له أن يقوم بها.

يتألف مجلس الشعب من 250 عضواً، ينقسمون إلى فئتين رئيسيتين: تضم الأولى العمال والفلاحين ويؤلفون 50 على الأقل من مقاعد المجلس، وتضم الثانية باقي فئات الشعب، ويحتفظ حزب البعث مع باقي أحزاب الجبهة بما نسبته تقريباً 85% من المقاعد البرلمانية، أما المستقلون فهم غالباً ما يكونون من رجالات السلطة، وهذا يعني غياب التمثيل السياسي الحقيقي للمواطن، وغياب المساواة العادلة بين النواب داخل قبة المجلس، أو على الأقل أثناء العملية الانتخابية، وبطبيعة الحال، كل ذلك يقودنا إلى النتيجة التالية: غياب التعددية الفعلية القادرة على تجسيد الكثرة داخل الوحدة.

في ضوء هذه المعطيات، لا تحمل الانتخابات التشريعية الحالية أي جديد، اللهم سوى بعض التعديلات البسيطة التي لا تغير من طبيعة الانتخابات، ومن أهم هذه التعديلات، تعديل المادة 24 من القانون التي تسمح للمرشح أن يذيع نشرات بإعلان ترشيحه وبيان خططه وأهدافه وكل ما يتعلق ببرنامج أعماله، ويقدم ثلاث نسخ إلى المحافظ على أن تكون موقعة من جانبه.

الانتخابات التشريعية في الدول الديموقراطية هي شأن عام، لكنها في الدول العربية باستثناء دولتين أو ثلاث، هي شأن خاص، وعليه فإن هذا التعديل لا يقدم ولا يؤخر في مسار العملية الانتخابية طالما أن أكثر المرشحين معروفون مسبقاً، وحتى المستقلون، فهم من رجالات الأعمال الكبار الذين لا يدخلون المجلس من أجل القضايا العامة، بل من أجل امتلاك ناصية الحضور السياسي كجاه اجتماعي يرادف الجاه الاقتصادي من جهة، وكدعم سلطوي يعزز العمل الاقتصادي من جهة ثانية.

والمفارقة أن المادة تطلب من المرشحين تقديم نشرات ببرامجهم، وهنا يطرح السؤال المركزي: كيف يمكن المرشحين تقديم برنامج انتخابي والأحزاب التي ينتمون إليها لا تمتلك برامج أصلاً؟ سوى تلك الشعارات السياسية الأيديولوجية، وحتى الحكومة ذاتها تفتقد أي برنامج اللهم العناوين العريضة. وهناك نقطة ثانية على غاية من الأهمية، هي أن تقديم المرشح لبرنامجه يكون للمحافظ لا للشعب الذي على أساس البرنامج يمارس حق الاقتراع واختيار ممثله السياسي.

أما التعديل الثاني فلا يخرج عن إطار التعديل الأول، إن لم يكن أكثر إشكالية، إذ حدد القانون سقف الإنفاق المالي على الدعاية الانتخابية للمرشح بمبلغ قدره ثلاثة ملايين ليرة سورية (ما يعادل 60 ألف دولار أميركي)، ويحظر القانون على المرشحين تقديم خدمات أو مساعدات عينية أو نقدية للأفراد والجمعيات والنوادي الرياضية والأشخاص الاعتباريين غير الرسميين.

لا أحد يعرف أو يقدر على ضبط عملية الإنفاق للمرشح، فهي عملية معقدة جداً وتحتاج إلى آليات ضبط ورقابة شديدتين للمرشح ورجاله، ومع ذلك لا يمكن ضبطها قانونياً، إذ تأخذ عملية الإنفاق أشكالاً متعددة وأسماء متنوعة، ثم ما الغاية من هذا التحديد المالي للإنفاق في ظل غياب الأسس الديموقراطية للعملية الانتخابية؟
تجري الانتخابات التشريعية في سوريا مثل سابقاتها بدون أدنى اهتمام من المواطن السوري بها، باستثناء أولئك الذين تربطهم علاقة مباشرة بالمرشح. باختصار، لا يجد المواطن السوري في انتخابات مجلس الشعب أي تمثيل سياسي له.