ما أن عاد الجنوبيون الى أنقاض بيوتهم مسجلين النصر على العدوان الإسرائيلي على لبنان حتى دار نقاش حول الحرب الإسرائيلية القادمة، لأن المهمة لم تنفذ، كما يقال باللغة العسكرية المغلقة. وقد انطلق النقاش عادة من زاوية نظر حاجة الجيش الإسرائيلي الى ان يعيد الاعتبار لهيبة الردع لديه التي جاء العدوان على لبنان ليثبِّتها ففقدها. والحقيقة أنه حتى لو كانت استعادة هيبة الردع سببا كافيا للرأي العام الإسرائيلي أو للمؤسسة الصهيونية (ويمكن إهمال الفرق بينهما) لشن الحرب في الماضي، فهي لم تعد كذلك حاضرا، وذلك بسبب الفشل في لبنان. ويصعب الإقناع بالعودة الى الوسائل ذاتها لتنفيذ الأهداف نفسها قريباً، ناهيك عن عدم اكتمال نشوء المتغيرات المساعدة اللازمة على الأرض.

ويصعب على المؤسسة الإسرائيلية حالياً أن تجد التأييد داخلها أو في الرأي العام لشن حرب قريبة ضد الأهداف نفسها، وذلك بعد فشل الحرب الأخيرة في تحقيقها. وكل النظريات الإسرائيلية المنشورة (نقول المنشورة حتى لا نتهم من جديد بـ «إعطاء معلومات للعدو») القائلة إنهم سيبدأون الحرب القادمة براً لا تغير شيئا، فربما تتمنى المقاومة اللبنانية أن تبدأ إسرائيل بما انتهت إليه المرة السابقة من دون كل هذا الدمار والقصف الوحشي.

مع التحفظ أنه مع ذلك، ورغم ما قيل أعلاه، يجب عدم منح الأسباب لإسرائيل لشن هجوم انتقامي على لبنان، لأنها لن تفوت فرصةً للرد للانتقامي من الهزيمة أو على الاقل كي لا تخلق سوابق جديدة على نمط تفاهمات نيسان، ومع التحفظ أن التحليل النظري أعلاه دائماً محدود الضمان، فثمة مغامرون في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والسياسية قد يقدمون على حماقات، وفي حالة إقدامهم على حماقات سوف يكتشفون قدرة على المقاومة لا تقل عما سجلته في صفحة التاريخ تلك... مع هذين التحفظين نقول انه يصعب منطقيا، إذا توفر المنطق طبعا، حساب إمكانية حرب جديدة على لبنان.

ولكن هذه الجملة غير كافية... والأدق أن نقول «يصعب توقع حرب على لبنان وحده»، وهذا يعني أن كل حرب قادمة سوف تكون حربا إقليمية. فإذا ضرب لبنان المرة القادمة سيمتد العدوان إلى سورية، إما لأنه لن يكون مقنعا لأحد في إسرائيل ان المقاومة قادرة على الصمود من دون سورية، أو استباقا لتدخل سوري بات ممكنا، أو نتيجة لتقدير إسرائيلي في حالة الحرب أنه من الأفضل ان يحصل الاستباق قبل تعاظم القوة الدفاعية السورية الجاري الحديث عنها على لسان كل خبير وكل صحيفة في إسرائيل.

في هذه الحالة يسأل السؤال: هل تستطيع ايران أن تقف موقف المتفرج من حرب قد تطال سورية ولبنان وواضح أنها خطوة أولى لعزل ايران نهائيا في المنطقة؟ إيران ربما تقدّر أنه إذا شنت إسرائيل حربا قادمة على لبنان، فإن ذلك مؤشر لحتمية الحرب الأميركية ضدها. الإجابة غير واضحة، ولكنها تحمل مخاطر. وهذا يعني إمكانية حرب إقليمية واسعة، وفي ظل الوجود الأميركي المكثف في الخليج والعراق. لم يعد مثل هذا القرار قراراً إسرائيلياً تدعمه أميركا، بل بات قراراً أميركياً، تدعمه إسرائيل إذا طلب منها.

ولذلك نقول إن الحرب القادمة هي حرب إقليمية. ونحن نتمنى ألا تكون، ويجب منع وقوعها بالسبل كافة. فالمنطقة مرهقة ومفجوعة بما يجري في العراق، ونسيج مجتمعاتها ذاته، ناهيك عن وحدة دولها، باتت عرضة للتضرر مباشرة من الحروب... والحرب الإقليمية بتوفر سلاح الصواريخ، وبوجود دول تختلف عن العراق بعد عقد ونصف من الحصار، وتختلف عن أفغانستان بالتأكيد، ستكون مدمرة نتيجة لقدرة الدول المعنية على الرد والمقاومة، و «اضطرار» الولايات المتحدة على تفعيل «قوة نار» أكبر. هذا عدوان مكتوب له الفشل منذ الآن فلماذا يتم إدراك ذلك فقط بعد وقوع الكارثة؟

يتفق معظم المعلقين العسكريين أنه بعد تحرك ناقلة الطائرات الثالثة نحو الخليج أخيراً بات قرار شن الحرب أكثر واقعية. الجميع يكرر هذه الجملة التي تبدو سحرية، ولا ادري مدى صحتها، وهل الرقم ثلاثة سحري مثلا؟ في حالة خيار الولايات المتحدة سوف تكون إيران هي الهدف لشن الحرب، هذا واضح. ولكن التجربة الأميركية في العراق تؤكد انها لن تكون اجتياحا لإيران... الحديث هو إذا عن قصف أميركي لـ «بنك أهداف» تم تجهيزه في إيران. وهذا بحد ذاته لا يمنح إيران إمكانية المقاومة مباشرة في العراق فحسب، وهي مفارقة عجيبة بالنظر لموقف إيران من المقاومة العراقية حاليا، ولكنه يمنحها قدرة الرد العسكري الكلاسيكي في مناطق أخرى. ومن هنا الخوف الصادق والفعلي من هذه الحرب عربياً. وطبعاً نحن لا نتحدث عمن يتواطأ مرة أخرى لشن الحرب، فمثله لن يتعلم اي درس، وحتى لو تعلم الدرس فهو ليس قادراًَ على استخلاص العبر. ولكن بين نقاد إيران العرب من لا يريدون الحرب فعلاً ويخشونها. ومع ذلك فإن السلوك العربي المعترض على الحرب ويخشاها فعلا، يحاول أن يضغط حالياً على إيران كي لا تمنح اميركا سبباً للحرب، ولكن ضغطه او حتى توسله من الاميركيين الا يقعوا في خطأ شن الحرب مرة أخرى غير واضح تماما. وهذا ينتج معادلة خطيرة، بالنظر لطبيعة القيادة الإيرانية الحالية بشكل خاص: إذا لم تقبل إيران بالشروط الاميركية فسوف تشن الحرب عليها. وهذه نبرة لن تقبل بها إيران، وهي تستطيع ان تدلل على أن القبول بالمنطق الامبراطوري والاستسلام له أثبت أنه كارثي، وبإمكان الأنظمة العربية الناقدة للمشروع الإيراني ان تساهم أيضا في تليين الموقف الأميركي قبل أن يصل الى النقطة التي لا ينفع فيها الكلام، ويجب أن تعرف أميركا صراحة أنها تخشى من تبعات هذه الحرب وإسقاطاتها عليها.

ولا شك أن حربا أميركية على إيران حاليا لن تعني إلا حرب بوش قبل ذهابه وإسرائيل في أزمتها الراهنة، لأن غالبية الرأي العام الأميركي المختلف عن رأي المؤسسة الحاكمة هذه المرة، خلافا لإسرائيل، تعارض الحرب. وقد تبين ان هنالك من يسرب أخبارا عن الحرب من داخل المؤسسة الأمنية الأميركية لصحافيين مرموقين في تلك البلاد لكي يكشف للجمهور ما يعد ويخطط وبحيث تسنح الفرصة لبلورة وتثوير رأي عام ضد الحرب. ففي المؤسسة الأمنية الأميركية ثمة من يعرف ان الحرب قادمة وهو يعارضها ويريد منعها هذه المرة خلافاً للمرة السابقة.

بعد فشل بوش في كل مكان نشأ خطر أن يشن حربا انتقامية على إيران مدفوعا بالتأكيد على أن الولايات المتحدة تصر على مواقفها في المنطقة، ولا تتراجع بل تنفذ ما تريد، ومدفوعا بموقفه، وهو الموقف الإسرائيلي نفسه، من التسلح النووي الإيراني. وهو أيضاً مدفوع بالرغبة في إثبات عدم تراجعه عن منطق «محور الشر» رغم الفشل المدوي في العراق... هذه أيضا حرب يتم فيها تكريس النهج والمنطق الذي نشأ بعد 11 أيلول (سبتمبر) وآثاره بحيث لا يختفي مع فشل العراق. ثمة عناد غريزي لدى الضعيف لاعتبار كل هزيمة درسا يجب قبوله والتعلم منه، وثمة عناد غريزي لدى القوي يرى في تعلم الدرس من التجربة قبولاً بالهزيمة. ولكن أميركا باحتفاظها بقدرتها على شن حروب عدة في مناطق عدة في العالم رغم الفشل، وبرئيس كهذا يمكنها أن تسمح لنفسها ألا تستخلص العبر أو أن تتجاهلها. بوش يرفض قبول الهزيمة في العراق. أما المسؤولون الأكثر مسؤولية ولكي لا تفقد أميركا هيبتها تماما فيقبلون الاعتراف بالفشل في العراق ولكنهم يصرون على التمييز بين: «أميركا فشلت في العراق»، و»أميركا فشلت». وسيكلف هذا التمييز ثمناً باهظاً مرة أخرى.

من ناحية أخرى، لا بد ان المسؤولين الإيرانيين يشكون في ان من يحذرهم من خطر كهذا في فترة بوش العرجاء، إنما ينسق مع الأميركيين بنصيحته لهم ببعض التراجع ليحقق بهذا الأسلوب دون حرب ما لا تستطيع اميركا تحقيقه من إيران، بالضبط لانها غير قادرة على شن الحرب. ومن هذه الزاوية، ربما يشك الساسة الإيرانيون أنه يتم تسريب الأخبار من المؤسسة الأمنية الأميركية للصحف وللصحافيين بغرض تخويف إيران من حرب واقعة لا محالة وتحصيل نتائج بتراجع إيراني من دون شن حرب. وربما يكون هذا التقدير الإيراني صحيحاً، ولكن هل تجوز المقامرة؟

ورغم جهل الكاتب بلغة القمار نقول: السؤال هو عن الثمن الذي يدفعه اللاعب ليترك طاولة القمار قبل ان يحصل مكروه. إذا فهم مثلا ان ثمن الانسحاب باهظ، فربما سوف يفضل أن يجازف.

واضح لإيران وسورية أن الفترة التي يجب تمريرها هي فترة بوش، وهذا يعني سنتين من تجنب المواجهة. هل هذا ثمن مرتفع؟ إذا تم تسجيل سابقة تراجع كلي ومبدئي لتجنب المواجهة فسوف يكون هذا بنظرهم ثمناً مرتفعاً: مثل ان تتراجع إيران عن التخصيب نهائياً، او أن تدعو سورية لخيار السلام من دون أن تحتفظ بخيار المقاومة. لأنه يصعب في ما بعد على الغرب عموما قبول أي تغيير في الموقف الإيراني أو السوري لصالح العودة الى مشاريعه، وتصبح كل منهما تحت رحمة استراتيجية التوسل يقابلها طلب المزيد من التنازلات. ولذلك فإن التغيير يجب ان يكون مجرد إعطاء سلّم يساعد من يريد النزول عن سقف التهديد بالحرب من دون تسجيل الفشل الأميركي الكامل.

ويسهل بعد ذلك بالتشخيص وبالعقل السليم رؤية هل سيطالب بالمزيد وهل يتحول هذا التغيير الى قتال إيراني تراجعي لا حدود له، ولا ينتهي الا بإرضاء أميركا في كل ما تطلب. وبغض النظر عن النيات الاميركية تترك النبرة الإيرانية رغبة لدى الجميع بسماع تغيير على الاقل في النبرة واللغة. قد لا يكفي هذا التغيير ربما، ولكن إيران لن تخسر شيئا جوهريا، وقد تربح إذا عرضت مثل هذا التغيير في النهج. فهنالك قضايا لفت المشاريع الإيرانية بغلاف من الإيديولوجية جعلت حتى بعض المتعاطفين والرافضين لعدوان أميركي عليها يخشون تبعات المشروع الإيراني، وذلك من نوع ما انتقدناه سابقا من انشغال من دون حق ومن دون حاجة بالهولوكوست، أو عدم الطمأنة المباشرة والسافرة حول عروبة العراق، وإبداء الحرص على الهوية العربية الواحدة لشيعته وسنته.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)