عندما كنت في كينيا الأسبوع الماضي، قامت زوجتي "آن"، وهي بالمناسبة تعمل مُدرسة، بزيارة إلى مدرسة "ميوكيورو– كايابا" الابتدائية الواقعة في أحد أحياء نيروبي الفقيرة، وهي من المدارس التي تمول الولايات المتحدة برنامجا للتغذية فيها للمساعدة على انتظام التلاميذ في الحضور إلى فصولهم. بعد عودة زوجتي من المدرسة، أخبرتني أنها رأت ملصقاً يصور السيناتور الديمقراطي "باراك أوباما" وزوجته أثناء زيارتهما إلى كينيا في أغسطس الماضي، معلقاً على جدران المدرسة ومكتوبا تحته "إن عائلة أوباما تعرف حالتها بالنسبة لفيروس نقص المناعة HIV، فهل تعرفون أنتم حالتكم؟" (تطوع السيناتور أوباما وزوجته ميتشيل لإجراء فحص ذلك الفيروس عندما كانا في نيروبي).

بعد ذلك بعدة أيام قال لي صديقي "روبرت كير"، مسؤول الشؤون العامة بالسفارة الأميركية في نيروبي، إن "كل رؤساء الأقسام في السفارة قد طُلب منهم تقديم أسماء بعض معارفهم الرئيسيين لدعوتهم لحضور حفل استقبال لأوباما بمقر السفير... وكان من ضمن الأسماء التي قدمتها اسم "روز كيموتو" التي كانت تشغل في ذلك الوقت منصب رئيس اتحاد ملاك وسائل الإعلام، و"موزيس موانجي" مؤسس هيئة مارتن لوثر كنج من أجل أفريقيا. وفي زيارة قمت بها مؤخراً إلى مكتبيهما لفت نظري درجة البروز التي منحاها للصور التي التقطت لهما مع "أوباما" حيث وضعتها "روز" على الطاولة الصغيرة الموضوعة بالقرب من سجل الزوار الخاص بها وعلقها "موزيس" على جدار مكتبه بجوار صورة للرئيس الكيني "كيباكي".

ومع علمي أن والد أوباما ينحدر من كينيا... إلا أن ذلك الملصق وتلك الصور، دفعتني إلى التفكير والتساؤل فيما بيني وبين نفسي: متي كانت آخر مرة رأينا فيها رئيساً أو سياسياً أميركياً يُنظر إليه كنموذج يحتذى في الخارج؟ بقدر ما أتذكر، فإنني اعتقد أنه قد مضى وقت طويل على ذلك. وهذه الإجابة قادتني إلى التفكير في أوباما الذي أرى أن أقوى حجة يمكن للمرء أن يسوقها لإثبات جدارته بالرئاسة في الوقت الراهن، هي حجة نادر ما يتم التعبير عنها ألا وهي قدرته الكامنة على إصلاح العلاقات المقطوعة بين أميركا والعالم.

خلال الزيارات التي قمت بها لدول تقع في مختلف أنحاء العالم في فترات مختلفة من حياتي، لم أر رئيساً ونائب رئيس ينالان هذا القدر من الكراهية مثل ذلك الذي ناله كل من جورج بوش وديك تشيني. وتعود بعض أسباب تلك الكراهية إلى المواقف التي يتخذانها والتي تتسم باللامبالاة بما يقوله العالم، كما يعود بعضها الآخر إلى سياساتهما تجاه العراق وبروتوكول "كيوتو" واتفاقيات جنيف. غير أنه يتعين القول أيضاً إن بعض تلك الأسباب ينطوي على قدر من التجني كالزعم مثلاً بأن بوش لا يهتم بمقاومة مرض الإيدز في أفريقيا على الرغم من أنه يقف في طليعة الرؤساء المهتمين بذلك. وبعض تلك الأسباب ليست سوى هراء محض وترجع في رأيي إلى أن الكثيرين من الأجانب يلومون أميركا دائماً على ما يحل بهم من بلايا.

غير أنه يمكن مع ذلك القول على نحو ما إن الخلاصة التي نخرج بها من كل ذلك هي: أن فريق بوش- تشيني، وبيده لا بيد غيره، قد قوض قدرته على الحديث عن مبادئ أميركا إلى درجة أفقدته السلطة الأخلاقية. فبمجرد أن يتحدث هذا الفريق عن المبادئ وعن الوضوح الأخلاقي على سبيل المثال، فإن الأجانب سوف يردون بذكر ما حدث في "أبوغريب" وما يحدث في "جوانتانامو"... مما يضع حداً للمناقشة على الفور. علاوة على ذلك، فإن فقدان الوضوح والسلطة الأخلاقية لفريق بوش جعل بعض الأجانب الأشقياء يفلتون من العقاب، لأن الولايات المتحدة تفعل نفس الأشياء التي كان يمكن أن يتعرضوا بسببها للعقاب.

وهذا ما يعيدني مرة أخرى للحديث عن "باراك أوباما"، الذي أرى أنه يمتلك القدرة على إثارة نوع جديد من الحوار. فالرجل- حتى الآن على الأقل- يتمتع بنوع من السلطة الأخلاقية المستمدة من قصة حياته التي تجعل من الصعب على أي أحد أن يقلل من شأنه. وعلى الرغم من أنه متحدث لبق، فإن أكثر ما يلفت نظري إليه أنه متحدث جيد للغاية، وهي صفة مهمة لأنك عندما تستمع جيداً لما يقوله الناس، فإن أولئك الناس سيدَعونَك تقول لهم ما تود قوله.

ولكن الاستماع الجيد يجب أن يبدأ في الوطن. لذلك فإني غادرت أفريقيا وعدت إلى أميركا حتى لا يفوتني الحوار الدائر في برنامج "دون آموس" وهو عرض تلفزيوني أظهر أنا فيه.

هذا البرنامج يبيّن حجم العمل الذي يجب علينا أن نقوم به هنا في الوطن في سبيل تعلم فضيلة الاستماع، لا بل فضيلة تبادل المزاح مع الآخرين، عبر كافة خطوط العنصر والجندر والدين القائمة في مجتمعنا. إن ميولي في أي حوار تتمثل دائماً في الحرص على المحافظة على الحدود مفتوحة على مصراعيها، وعلى مقابلة الحوار بالحوار، بمزيد من ضوء الشمس وليس بالرقابة.

بيد أنني يجب أن أقول مع ذلك إن قراءتي لردود الأفعال التي صدرت عن بعض من أفضل المعلقين الأميركيين المنحدرين من أصول أفريقية، قد بينت لي بجلاء مدى الأذى والضرر الذي يتم داخل تلك الحدود الواسعة، ومدى حاجتنا- على ضوء طبيعة مجتمعنا الذي يزداد تنوعاً على الدوام- للنقاش حول النقطة التي يجب أن نقف عندها اليوم بشأن كافة المواضيع بدءاً من إذاعة الصباح إلى الصرعات والموسيقى الشبابية إلى الإنترنت.

لكم كنت أتمنى أن تستمع الأمة بأسرها للحوار الذي دار بين" آموس" وبين فريق "راتجرز" لكرة السلة النسائية كي نستفيد منه نحن جميعاً بشيء ما. ولكن بما أن ذلك البرنامج قد انتهي الآن، وبما أنه لا يوجد لدينا رئيس كي يقود حواراً أكثر اتساعاً- لأن بوش حسب رأيي قد لعب دوراً كبيراً في الانقسام القائم في المجتمع في الوقت الراهن بدرجة لا تمكنه من أن يتولى زمام القيادة في هذا الأمر. لذلك فإن ما نراه في الوقت الراهن في مجتمعنا ليس حواراً جامعا، وإنما ردود أفعال تنطلق عبر الخطوط يعود بعدها كل فريق إلى زاويته، وهو ما لا يمكن أن يترتب عليه أي شيء إيجابي على الإطلاق.

يعيدني هذا إلى "أوباما" مرة ثانية، والذي اعتقد أن ما ساعد ترشيحه للرئاسة على الانطلاق بالصورة التي انطلق بها حتى الآن- وربما أكثر من شيء آخر- هو أن الأميركيين قد ربطوا ما بينه وبين شوقهم إلى روح الجماعة المتآلفة، وطموحهم إلى زعيم صاحب رأي وفطنة وبصيرة، وصاحب ما هو أهم من ذلك، ألا وهو السلطة الأخلاقية التي تجعل من مناوأة الأجانب لأميركا، أو حتى مناوأة الأميركيين ذاتهم لبعضهم بعضاً، أمراً أكثر صعوبة بكثير مما هو عليه الآن.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)